-1-
حتى محمود درويش لم يكن يتخيل أن ما حدث يمكن أن يحدث وهو يكتب:
هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي
هذا هو العرس الفلسطينيّ
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
إلاّ شهيدا أو شريدا!
العروس دانيا إرشيد عمرها 17 سنة، كانت عائدة من المدرسة عندما رأت جنديا صهيونيا يشرب القهوة، ولأنه مسكون بخوفه الأبدي جراء إحساسه بأنه مجرم، ومطلوب للعدالة، خالجه شعور اعتيادي حيث شك في لحظة إنها ستفعل شيئا ما لا يغادر رأسه، كلما رأى "ضحية" من ضحايا الاحتلال، وربما أحب أن يمارس هوايته المتوحشة في القتل، حسب ما قال شهود عيان: جنود الاحتلال أطلقوا الرصاص على دانيا من مسافة قريبة وتركوها ملقاة على الأرض ومنعوا الفلسطينيين المتواجدين في المكان وسيارات الإسعاف من الوصول إليها، وتركوها تنزف على الأرض حتى فارقت الحياة، لم تفعل شيئا يستحق القتل، كانت تحمل حقيبة في يدها وهي في طريق عودتها إلى المنزل، قبل أن يوقفها أحد القتلة، ويطلب منها فتح حقيبتها، وحينما مدت يدها لتفتحها بناء على طلب القاتل، أقدم قاتل آخر على إطلاق أكثر من عشر رصاصات، وزعها باحتراف على رأسها وجسمها، ليضمن أن هذا الكائن لن يعاجله بطعنة متخيلة، وقعت دانيا على الأرض واستشهدت على الفور، انتشرت الصور وقصة دانيا بين الناس وأثارت مشاعر الغضب في قلوبهم، قلب شاب اسمه رائد جرادات لم يحتمل تلك المشاعر، وشعر بالاختناق، وكتب كلمتين فقط على حائطه في "فيس بوك" قرب صورة الشهيدة: "تخيلها أختك" أودعها كل مشاعره المتفجرة بالغضب والقهر!!
مشاعر رائد لم تقف عند هذا الحد، ولم يشف غليله ما كتب، بل كان إعلانا على أنه اعتبرها كذلك، وحق الأخوة في المخيال الفلسطيني أن ينتصر الأخ لأخته، وهذا ما حصل!
عاد رائد من عمله في حراسة "المحجر" العائد للعائلة صباحا، اغتسل ولبس أجمل ملابسه، سأل أمه: "حلوة لبستي يما؟". فأجابته: "القالب غالب يما". قبّل يدها وسلم عليها وخرج، مر على جدته وقبّل يدها، وفي طريقه نحو الجامعة مر على أخته وأهداها قلادة، ثم ودعها وخرج نحو شهادته. هكذا روى رشاد شقيق الشهيد الأكبر آخر لحظات رائد!
رائد أصاب جنديا بجراح خطرة واستشهد بنفس اللحظة، بعد أن أزالت طلقات القاتل ملامح وجهه، فقد كان مقبلا غير مدبر، وحُجزت جثته كما هي العادة عند الصهاينة بدرجة حرارة 10 تحت الصفر، الطبيب الشرعي استلم الجثة ورأى جروح رائد برأسه واتفق مع أهله أن لا يروا وجهه لأن المنظر مؤلم وقال لأم رائد سنكشف فقط عن جبهته حتى تبقى في ذاكرتكم أخر صورة له، أم رائد وافقت وعندما رأت جبهته كي تقبلها وتودعه راحت يدها تتحسس رأسه وهنا نزل دم من جرح برأسه ليس له أي تفسير علمي!
أم رائد صارت تأخذ من الدم وتمسح على وجهها والدكتور عاد إلى بيته ونام بالمعطف الأبيض المضرج بدم رائد، بسبب رائحته الحلوة .. !
إلى هنا والمشهد عادي جدا في بلاد قال عنها درويش: بها شهيد، يُسعفه شهيد، ويُصوّره شهيد، ويُودّعه شهيد، ويُصلّي عليه شهيد، الصاعقة كانت بمهرجان تشييع الشهيد جرادات في بلدة سعير، حين وقف أبو رائد وقال لوالد الشهيدة دانيا إرشيد بشكل مفاجئ وأمام الآلاف:
"أنا بطلب إيد بنتك الشهيد دانيا إرشيد لابني الشهيد رائد جرادات والمهر كان الدم اللي دفعه رائد ..!" أبو دانيا صرخ وقاطع الكلام قبل أن ينتهي وقال:
"مبروك يا عمي ... مبروك يا عمي"!
تعانق الصهران، وزفا العروسين، وسط مشاعر هي الأولى من نوعها، فجرها عرس لم يسبق لأحد أن أجترحه، حيث يتزوج الشهداء على الطريقة الفلسطينية!
-2-
الفانتازيا الفلسطينية لا تنتهي، فهي غرائبية بقدر غرائبية الاحتلال وتوحشه السادي الذي لا ينتهي، ويبتدع طرقا جديدة في التوحش، تقابله وسائط مقاومة إبداعية تتسق معه!
غرائبية عرس دانيا وائد لا تقل غرائبية عن استشهاد "ساق" جلال شراونة التي سبقته إلى الخلود، بعد أن قتلتها رصاصات الاحتلال، وماتت جراء الإهمال الطبي، ما لزم بترها، وتسليمها إلى أهله!
اعتُقل الفتى جلال وهو في السابعة عشرة من عمره، مصابا برصاص جيش الاحتلال الصهيوني، قبل أن يتحرر شابا بعد ثلاث سنوات ونصف السنة دون رجل، وبشظايا رصاص بقي أسيرا في جسده أثناء اعتقاله وبعد تحرره أيضا.
أول ما فعله جلال بعد الحرية، حينما زار القبر الذي يرقد فيه بعضه، وقف شراونة أمام القبر مخاطبا رجله "أنا الشهيد الحي"، "أنا فوق الأرض وأنت شهيدة في باطنها، ولكنك سبقتني إلى الجنة"!
شهيد يزف إلى شهيدة، وأسير يستشهد بعضه.
هذان مشهدان من الملحمة الفلسطينية التي لم تنتهي بعد، ولن تنتهي إلا بتحرير فلسطين، كل فلسطين، فشعب هذه صفاته لا يمكن أن يستسلم لمحتل، حتى ولو بقي منه طفل واحد!