لم يسبق لغزة أن عاشت ما تعيش الآن، نحو تسعة أشهر انهار
فيها كل شيء ليس على رؤوس أهلها فحسب، بل على رؤوس كل فرد في هذا العالم، من ينفعل
بالحدث ومن ينأى بنفسه عنه.
غزة تركت العالم في حالة عري غير مسبوق، عري من كل
الأقنعة التي ارتداها المهرجون والقتلة ودعاة الأخلاق وحقوق الإنسان، حالة غير
مسبوقة من ارتكاب جريمة جماعية مع عدد كامل من الشهود.
كتب لي صديق من بؤرة المكان يقول: "أتدري
ماذا تعني الحياة دون مصدر رزق، ودون بيت، ودون محلات تجارية كانت تحت البيت، ودون
سيارة، ودون ملابس ودون حذاء، ودون طعام؟ حين يكون لديك بنات في الجامعة وأولاد
دون سن الرشد، وأحفاد من ابن شهيد، وكلهم يقول لك: هات، بدنا، اشتري لنا، أتدري ما
لون الحياة في مثل هذه الحالة؟ أتدري أخي حلمي ماذا يعني الصباح، وكيف يعبر الليل؟
أتدري ماذا يعني أن تجد نفسك عاريا في هذه الدنيا، بعد أن كنت أميرا برزقك وصحتك
وبيتك وعائلتك؟ هذا هو الوجه الآخر للحياة في غزة، والذي لا يمكن الحديث عنه إلا
لمن هم ثقة، ومن هم جديرون بفهم الحالة الفلسطينية، الاحترام لك من موجوع ومفجوع
حطت على رأسه الهموم والأحزان، ومع ذلك، لا يسمع الناس من حنجرتي إلا الصمود،
والثقة، والأمل في المستقبل، شامخون مظهرا، ومرهقون محتوى"!
المعذرة
صديقي، أستميحك عذرا في نشر بوحك الخاص على الملأ، مع أن شيئا مما قلت لم يعد سرا
مكنونا في الصدور، بعد أن فضحته الصور والكاميرات والبث المباشر للجريمة. لم يعد
في غزة ما يمكن ستره، ووسط هذا الحال الملتهب، تبرز الأسئلة المحرمة التي لا بد من
طرحها، وأولها وأقساها وأكثرها إيلاما: هل من حق
المقاومة أن تجر على غزة وأهلها
كل ما يعانونه اليوم، وبإمكانها منذ الغد، بل اليوم، بل الآن؛ أن تطفئ النار التي
تحرق قلوب الكبار والصغار، وتنهي الحرب؟ كم أحد منا دار في خلده هذا السؤال؟ كم
تمنينا أن تتم "صفقة" تبادل الأسرى (بأي ثمن!)
بعضنا يحسب أن غزة وأهلها طراز من البشر لا يتعب، وأنهم "مستمتعون" بالموت اليومي والتشريد والهرب والنزوح من مكان إلى آخر ليس أقل أمنا
فقط أن تعيش غزة ولو
قليلا (أياما أو حتى ساعات!) بلا موت؟ ألم تكن مختبئة في كلمات الصديق المكلوم
الذي يعيش (بل يموت حيا!) وسط أتون الحرب، "شامخون مظهرا، ومرهقون
محتوى"، عبارة تختصر كل ما يجري؟!
بعضنا
يحسب أن غزة وأهلها طراز من البشر لا يتعب، وأنهم "مستمتعون" بالموت
اليومي والتشريد والهرب والنزوح من مكان إلى آخر ليس أقل أمنا. ماذا عن الفقد
اليومي، وصلاة الجنازة التي غدت طقسا يفوق في تكرارها الصلوات الخمس؟ ماذا عن رؤية
الأحبة أبناء وبنات وإخوة ووالدين مقطعي الأوصال، أو متفحمين حرقا، أو أشلاء
يجمعون في كيس؟ ماذا عن النوم على أزيز الطائرات وقصف المدافع والصحو على جدران
تنهار وسقوف تدفن تحت أنقاضها الأحلام والآمال والحياة كلها؟ هل من حق الغزي أن
يقول: "أخ" تعبت، كفى؟ هل من حقه أن يصرخ بملء فمه الذي نسي مذاق الطعام
الهنيء: أوقفوا الحرب بكل ما أوتيتم من "استسلام"؟ هل من حقه أن يقول
لمقاومته: استسلموا، فلم نعد مستعدين لمزيد من التضحية؟ هل يجرؤ على أن يقول:
ألقوا سلاحكم، فلم يعد لدينا متسع لموت إضافي؟
أهي
أسئلة محرمة فعلا، بل أهي مشروعة فعلا؟ أم أن هذا السؤال هو نفسه من ضمن الأسئلة
المحرمة؟
أظن
أن هناك في غزة تحديدا من يطرح مثل هذه الأسئلة، ولكننا لا نريد أن نسمعها، ولا
نريد أن نتخيل أن هناك من يطرحها أصلا، فنحن المراقبون لما يجري نعيش حياتنا بكل
ضجرها وروتينها، نذهب إلى الحمام في الوقت الذي نريد ونقضي حاجتنا بغير اهتمام، في
الوقت الذي لا يجد فيه الآلاف هناك ممن يقضون هذه الحاجة مكانا آمنا لقضائها، نشرب
قهوتنا الصباحية باستمتاع، وآلاف يستيقظون على صوت القصف، فيلملمون من وما
يستطيعون لملمته بحثا عن نزوح جديد!
هي
أسئلة محرمة، ولكنها مشروعة، وقاسية وحقيقية، لا نريد أن نسمعها أو حتى أن نفكر
فيها، وإن كان هناك من يبحث عنها ويجتهد في إذاعتها ونشرها، عشرة أشهر مضت من
"انتصار" مكلف جدا، ودام جدا، وكارثي جدا، نتغنى بها ونتيه فخرا،
ونقولها بملء الفم: غزة رفعت رؤوسنا، ولكن ماذا عن رؤوس أهل غزة، من مات منهم تحت
الأنقاض ومن ينتظر دوره في الحرق أو بتر أحد أعضائه، أو الموت جوعا أو مرضا أو
قهرا؟
أسئلة محرمة، ولكنها مشروعة، وقاسية وحقيقية، لا نريد أن نسمعها أو حتى أن نفكر فيها، وإن كان هناك من يبحث عنها ويجتهد في إذاعتها ونشرها، عشرة أشهر مضت من "انتصار" مكلف جدا، ودام جدا، وكارثي جدا، نتغنى بها ونتيه فخرا، ونقولها بملء الفم: غزة رفعت رؤوسنا، ولكن ماذا عن رؤوس أهل غزة؟
ماذا عن الأسرى الذين جمعهم
الاحتلال من طرقات ومشافي وبيوت غزة، ليذيقهم
ألوانا من التعذيب الهمجي، والتجويع، والإهانة التي تصل حد هتك العرض على رؤوس
الأشهاد؟ هل يتمنى هؤلاء استمرار الحرب مثلا "حتى تحقيق
النصر الكامل"؟!
وهنا
تحديدا، أمام كلمة "النصر"، بوسعنا أن نقول بملء الفم إن غزة انتصرت
انتصارا مبهرا، ولم تزل تنتصر، ولكنه نصر مخيف، نصر جر رغبة مجنونة بإيقاع العقاب
على كل ما في غزة من حجر وشجر وبشر لأنها انتصرت! غزة -في عرف المعتدي ومن يحمي
ظهره ويمده بالصمود والأغذية والسلاح- انتصرت فعلا، ولهذا تجب معاقبتها عقابا مرا والتنكيل
بها حتى لا يفكر أحد بعدها ولو مجرد تفكير بأن ينتصر، فالانتصار محظور على العربي
والمسلم والغزي والفلسطيني، وأي انتصار كذاك الذي اجترحته غزة هو جريمة يستحق
مرتكبها عقابا جهنميا كالذي تعيشه غزة اليوم، ويجر كل تلك الأسئلة المحرمة!
هي
أسئلة محرمة فعلا، ولكن السؤال الأكثر إلحاحا: ألا يستحق النصر كل تلك
المعاناة
والعذاب؟ من يمنحك نصرا على طبق من راحة ودعة؟ ألم يكرم الله غزة بأن اصطفاها من
بين خلقه لتكون "المخلص" من عسف محتل مغرور ومتعجرف، مرغت أنفه بالتراب،
وجعلته مسخرة منبوذا كالكلب الأجرب بين الأمم؟
كلها
أسئلة، ومن المشروع طرحها، وخاصة حين يتعلق الأمر بمعركة لا تحدد مصير فلسطين وغزة
فقط، بل ربما بمصائر كثيرين في هذا العالم.