قضايا وآراء

سؤال الأخلاق في سياسة السعودية تجاه خاشقجي

1300x600

يحاول البعض أن ينفي عن السياسة العمل الأخلاقي، بدعوى أن السياسة تحمل في طياتها الخداع والتلون والكذب والحِيل، وأحيانًا المؤامرات، والحرص على المصلحة والمنافع فقط، وعدم إعطاء الجانب القيمي والأخلاقي أي اعتبار، ومن ثمّ لا بد من التفريق والفصل بينهما!

 

لو أن قيمة الحرية؛ التي هي أسمى معاني الحياة نُزعت وتمّ التضييق عليها، فبلا شك ستجدون أن الحياة لا تطاق

أقول هذا الكلام يحتاج إلى تدقيق وإعادة نظر، لأننا لو وصلنا إلى هذا الفصل التام، فسوف تتحول السياسة، والعمل السياسي إلى صراعات لا تنتهي، ونزاعات لا تحكمها القيم والمبادئ، ومن ثمّ تتحول الحياة إلى غابة يصْرع فيها القوي الضعيف، وتتحكم فيها المنافع والمصالح على كل شيء، ولا يبقى للقيم أي معنى ولا قيمة. ولذلك عرّفها عالم السياسة الأمريكي ديفيد إيستون بأنّها "تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة"، وبمعنى آخر السياسة هي معاش الناس.

ولكم أن تتخيلوا لو أن قيمة الحرية؛ التي هي أسمى معاني الحياة نُزعت وتمّ التضييق عليها، فبلا شك ستجدون أن الحياة لا تطاق حتى على مستوى الأسرة والبيت الواحد، وكذا باقي القيم مثل العدل والمساواة، وغيرها من القيم التي أقرّها الإسلام قبل أن تُقرّها قوانين وأعراف الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان.

والحقيقة أن المتابع بشكل مُنصف لما حدث في مأساة مقتل الصحفي والإعلامي جمال خاشقجي ـ يرحمه الله ـ يجد أن الانتقام غير الأخلاقي، والخداع، والكذب كان سيد الموقف لدى السياسيين في المملكة العربية السعودية، بداية من ولي العهد محمد بن سلمان إلى أصغر مؤيد لهذه الجريمة البشعة، مرورًا بوزير خارجيتها، ووسائل الإعلام المتناقضة التي تقول الشيء وعكسه!

محطات السعودية في الكذب على الرأي العام

صفة الصدق لا بدّ أن تلازم الإنسان في كل أحواله، سواء في ما يبديه من رأي يرتبط بما يملكه من أشياء، أو في ما يُبديه من رأي في أشياء غيره، أو كان مسؤولا في أي موقع كان. وقد بيّن الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم أن الكذب ليس من صفات المؤمنين، حيث إن الأصل في المؤمن أن يكون صادقًا لا يكذب، أمينًا لا يخون. قال تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُون) (النحل: 105)، وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وَعد أَخلَف، وإذا اؤتمن خان".

 

المتابع بشكل مُنصف لما حدث في مأساة مقتل الصحفي والإعلامي جمال خاشقجي ـ يرحمه الله ـ يجد أن الانتقام غير الأخلاقي، والخداع، والكذب كان سيد الموقف


ولكن للأسف من خلال متابعة تصريحات المسؤولين في المملكة العربية السعودية نجد أن السمة الغالبة كانت، ولا تزال الكذب وخداع الرأي العام، وقلب الحقائق لتحقيق مصلحة معينة، مهما كلفها ذلك من تضحيات، من أجل تمكين الأمير محمد بن سلمان للوصول إلى عرش المملكة!
 
ومحطات الكذب والخداع تمثّلت في التالي:

ـ 2 أكتوبر/ تشرين الأول: دخل خاشقجي قنصلية بلاده في اسطنبول للحصول على وثيقة رسمية للزواج من التركية خديجة جنكيز، ومرت ساعات وخطيبته تنتظره خارج القنصلية دون أن يخرج، فتواصلت مع الجهات الأمنية لإبلاغهم بعدم خروجه بعد فترة طويلة، وسألت المعنيين في السفارة فأخبروها بأنه خرج بعد 20  دقيقة، واستمرت هذه الرواية على لسان كل المسؤولين السعوديين.
 
ـ 4 أكتوبر/ تشرين الأول: القنصلية السعودية في إسطنبول تصدر بيانًا تقول فيه إن خاشقجي اختفى بعد خروجه منها، ولا يعرفون عنه شيئًا.

ـ 5 أكتوبر/ تشرين الأول: ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يقول في تصريحات لوكالة بلومبرغ إن خاشقجي غادر القنصلية السعودية في إسطنبول بعد دخوله بـ "دقائق أو ساعة".

ـ 12 أكتوبر/ تشرين الأول: وزير الداخلية السعودي عبد العزيز بن سعود ينفي الاتهامات الموجهة لبلاده بقتل خاشقجي.

ـ 14 أكتوبر/ تشرين الأول: رفضت السعودية "التهديدات" السياسية والاقتصادية، الموجهة لها بسبب اختفاء خاشقجي، حسبما صرح مصدر سعودي لوكالة الأنباء السعودية الرسمية. وقال المصدر إن السعودية "إذا تلقت أي إجراء فسوف ترد عليه بإجراء أكبر".


ـ 16 أكتوبر/ تشرين الأول: التقى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في الرياض بولي العهد السعودي محمد بن سلمان حيث التقطت لهما الصور، وهما يبتسمان ويتصافحان ويتبادلان حديثًا وديًا. وقال بومبيو عقب محادثاته في الرياض : "إن القيادة السعودية تنفي بشدة أي علم لها بما جرى في القنصلية السعودية بإستنبول".

ـ 20 أكتوبر/ تشرين الأول: اعترفت المملكة العربية السعودية رسميًا، بمقتل خاشقجي، وذلك بعد 18 يومًا على اختفائه، وقال النائب العام السعودي إن التحقيقات الأولية أظهرت وفاة خاشقجي في القنصلية السعودية بمدينة إسطنبول، ونقلت قناة الإخبارية السعودية عنه قوله إن "المناقشات التي تمت بين المواطن جمال خاشقجي، وبين الأشخاص الذين قابلوه أثناء تواجده في قنصلية المملكة في إسطنبول أدت إلى حدوث شجار واشتباك بالأيدي مما أدى إلى وفاته".

ـ 21 أكتوبر/ تشرين الأول: مسؤول حكومي سعودي، وصفته "رويترز" بـ"الكبير"، يُقدِّم رواية جديدة بشأن قتل خاشقجي، تفيد بأنه "جرت محاولة إسكاته عندما شرع في الصراخ فمات"، كما عرض لتفاصيل جديدة تناقض في جزء منها التفسيرات السابقة التي قدمتها الرياض، والتي لا تزال محلّ تشكيك دولي واسع. 

25 ـ أكتوبر/ تشرين الأول: النائب العام السعودي يعلن تلقي معلومات من الجانب التركي عن وجود "نية مسبقة" بقتل خاشقجي، وأن الجانب السعودي "يُحقق في ذلك".

ـ 27 أكتوبر/ تشرين الأول: وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، يرفض طلب تركيا لتسليم المشتبه بهم في القضية.. ويؤكد أن هؤلاء سيحاكمون بالرياض.

ـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول: استكمل النائب العام السعودي سعود المعجب، تحرياته في تركيا بعد ثلاثة أيام من المحادثات مع مسؤولين أتراك بخصوص قضية خاشقجي، ولم تخرج الزيارة بنتائج ملموسة.

ـ 1 نوفمبر/ تشرين الثاني: كشفت صحيفة "واشنطن بوست"، أنّ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وصف خاشقجي، بأنه "إسلامي خطير"، كما كشفت نفس الصحيفة عن وساطة قام بها عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لولي العهد السعودي، لدى الإدارة الأميركية، على خلفية تصفية خاشقجي.

ـ 15 نوفمبر/ تشرين الثاني: ذكرت النيابة العامة السعودية أنه تم رسم صورة تقريبية للمتعاون المحلي التركي في قضية مقتل جمال خاشقجي، وسيتم تسليمها للحكومة التركية، كما طالبت سلطات التحقيق في السعودية بإعدام 5 أشخاص من المتورطين في الجريمة، وقال المتحدث باسم النائب العام شلعان الشلعان في مؤتمر صحفي إن النيابة أضافت ثلاثة أشخاص إلى الموقوفين قيد التحقيقات ليصل إجمالي من تم توقيفهم 21 شخصًا.

ـ 20 نوفمبر/ تشرين الثاني: رفض وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، التقارير الإعلامية التي أفادت بأن المخابرات الأمريكية تعتقد أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أمر بقتل الصحفي جمال خاشقجي، قائلا إنه "لا أساس لها من الصحة تمامًا ونرفضها بشكل قطعي".
 
هذا التتبُع لسير التحقيقات في السعودية، وطريقة تعامل المسؤولين معها، يخالف كل التحقيقات الرسمية، والتسريبات التي أعلنتها السلطات التركية، ويشير بما لا يدع مجالًا للشك أن السلطات السعودية تُصرّ على الكذب والخداع، وتوهم العالم ـ من حين لآخر ـ أنها تسير وفق شرع الله، الذي حرّفوه وشوهوه بأفعالهم، والتي تبتعد كل البعد عن معاني الأخلاق الإنسانية بالتمثيل بجثة خاشقجي!

 

إقرأ أيضا: مستشار أردوغان: النيابة السعودية تتستر على الجناة