قضايا وآراء

نزيف قضايا التحكيم

1300x600
بات سماع خسارة مصر قضية من قضايا التحكيم أمراً اعتيادياً، فالخسارة الأخيرة، والتي ألزمت فيها هيئة أكسيد التابعة للبنك الدولي مصرَ بدفع ملياري دولار قيمة تسوية نزاع على تصدير الغاز الطبيعي إلى شركة "يونيون فينوسا" الإسبانية، والتي أوقفت الشركة المصرية للغازات الطبيعية "إيجاس"؛ إمداداته إليها منذ تموز/ يوليو 2012.. لم تكن هذه هي الخسارة الأولى، فقد سبقتها قضية شهيرة حكم فيها بتغريم مصر 1.8 مليار دولار، لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية؛ بسبب "مسؤولية الأضرار الناجمة عن الهجمات المتكررة على خط الأنابيب الذى كان يزود إسرائيل بالغاز"، وذلك بحسب ما قضت به محكمة سويسرية، في نيسان/ أبريل 2015، هذا بالإضافة إلى العديد من القضايا الأخرى.

كلفت تلك التعويضات مصر مبلغا ضخما قدر بحوالي 6.5 مليار دولار في السنوات العشر الأخيرة، وجعلتها تتبوأ مكانة الدولة الأكثر خسارة لقضايا التحكيم في العالم، وأجبرت الدولة على فتح مخصص في الموازنة العامة المأزومة تحت مسمى طوارئ بقيمة خمسة مليارات جنيه؛ تستهلك سنويا في سداد تعويضات تلك القضايا، في الوقت الذي فشلت فيه الدولة في توفير الاحتياجات المالية لقطاعي التعليم والصحة، وبقية الخدمات العامة التي أصبحت في حالة يرثي لها.

وتقف جملة من الأسباب وراء استمرار هذا النزيف، بعضها يتعلق بأطراف التعاقد، ويتعلق البعض الآخر بالبيئة المحيطة بالمناخ الاستثماري العام في مصر.

أما الذي يتعلق بأطراف التعاقد، فنجد في مقدمتها المعقود عليه، والذي غالبا يخضع في تحديده وتقييمه لإجراءات فاسدة تحت شعارات الخصخصة وفتح الأبواب أمام المستثمرين الأجانب. وفي الجانب الآخر نجد العقد، والذي ترك في الغالب لمجموعة من صغار الموظفين الهواة، دون وجود نموذج تعاقدي موحد لكل من تعاقدات الدولة، كما هو المتعارف عليه في بقية الدول.

وأما طرفا العقد، وهما من جهة الدولة، التي حطمت كل المتعارف عليه من بنود للشفافية والوضوح في التقييم والطرح والإسناد، وما تبقى من شكل قانوني ديكوري تحطم على صخرة قانون منع الطعن على العقود التي تكون الدولة أحد أطرافها، وهو ما فتح الباب على مصراعيه للطرف الآخر، وهو المستثمر الأجنبي الفاسد لكي يحصل على الشركات والمشروعات والأصول المصرية بأباخس الأثمان، واحتمائه بالمؤسسات الدولية التي ترعى حقوق المستثمرين ولم تأخذ في اعتبارها طرف الفاسدين الغافلين.

وكذلك يأتي بطء التقاضي في مصر كأحد الأسباب الرئيسة لرفض المستثمرين الأجانب النص الذي حاولت الحكومة المصرية تمريره في عقود الطاقة المتجددة، وتسبب في انسحاب الشركات الأجنبية والعربية والمصرية، مما يدلل على ضعف الثقة في القضاء المصري واستقلاليته وحياده وقدرته على تحقيق العدالة الاقتصادية الناجزة.

وزاد من حدة هذا الأمر آلية عمل المحاكم الاقتصادية المصرية، والتي تشترط دفع رسوم نسبتها 10 في المئة من قيمة الدعوى مهما كان قدرها، مما يشكل عبئا كبيرا على الباحثين عن حقوقهم، ويشكك في الوظيفة القضائية التي هي أحد الوظائف الكلاسيكية للدولة، والتي أضحت فيها العدالة لمن يدفع فقط.

لا يعني ما سبق أن الطريق نحو تخفيف الأضرار الناتجة عن تلك القضايا مسدود، ولكن يشير إلى غياب الإرادة السياسية لإيقاف هذا النزيف، فالسياسيون يملكون الكثير من أوراق الضغط على الشركات المتعاقدة، حيث يمكن التلويح بالتضييق على أعمالهم الحالية والمستقبلية والإسناد إليهم في مصر، كما يمكن التلويح باستهداف أعمالهم في الدول الصديقة، ويمكن الضغط عليهم من خلال شركائهم الاستراتيجيين، وغير ذلك من الأدوات التي لو توافرت الإرادة السياسية لأمكن استخدام بعضها للتأثير في إيقاف بعض نزيف التعويضات.

كما يأتي تدريب كوادر محلية على موضوعات التحكيم الدولي أمرا مهما كذلك، فمصر رغم امتلاكها حوالي 20 كلية قانون وعشرات الآلاف من المحامين، وتاريخها القضائي المديد، إلا أنها تعرضت في العقدين الأخيرين لعملية تجريف ممنهجة، تسرب من خلالها المئات إلى منصة القضاء، عبر الرشاوى والمحسوبيات، وأهملت العيد من النوابغ من أوائل كليات الحقوق، كما ساهم التنسيق في تدفق عشرات الآلاف إلى كليات الحقوق، مما أضعف من مستوى الخريجين الذين احتلوا مناصب تنفيذية في إبرام العقود التي تئن من خسارتها.

وكذلك يأتي ترميم النظام القضائي برمته، لا سيما الاقتصادي منه، كأحد أهم الحلول لوقف نزيف قضايا التحكيم، ثم كسر تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية وعلاج بطء إجراءات التقاضي، ووضع حد أقصي للرسوم في المحاكم الاقتصادية، وقصر تعيين القضاة على المتفوقين من خريجي القانون، وإسناد المناصب القضائية العليا للكفاءات، بالإضافة إلى إصلاح التشريعات.

وأخيراً، يتبقى إبعاد الأجهزة الأمنية عن الملفات الاقتصادية، ولا سيما ملف قضايا التحكيم. فقد تغولت هذه الأجهزة وأصبحت شريكا مستترا في كل المشروعات الاقتصادية. ومن المعروف أن هدف مديريها المصالح الشخصية، وبالتالي فإن استمرار عبث هؤلاء بالملفات الاقتصادية سيسبب خسائر في كافة النواحي، وسيسهم في المزيد من النزيف في قضايا التعويضات.