قضايا وآراء

آخر خطابات جمال خاشقجي

1300x600
(1)
إلى من يقرأ هذا الخطاب.. أحبكم جميعا.. فعلا أحبكم جميعا.. أدهشتموني بما فعلتم وتفعلون.. حتى أنني تفاجأت.. هل كنت أمثل شيئا لهذا العالم إلى هذا الحد؟..

رغم المأساة التي تعرضت لها، إلا أنني أجد في الأمر كثيرا من جوانب السعادة والغبطة.. لا يزال في عالمنا الموحش من يتنفسون الأمل، ويتعاطفون مع الضحية، ويطالبون بحق من لا يعرفون.. لا زال الضمير الإنساني بخير.. لا يزال الحس الإنساني موجودا ووافرا.. تابعت أطفالا ونساء ورجالا ربما لم يقرأوا لي حرفا ولم يشاهدوا لي كلمة، لكنهم تألموا من أعماق أرواحهم الطيبة.

(2)
أحبتي.. كثيرون منكم يتعاطفون معي وهم يتذكرون قسوة المشهد الأخير.. وكيف كانت اللحظات الأخيرة صعبة علي، لكنني أقول لكم.. إنها لم تكن عليّ بالقسوة التي تتخيلونها.. مر الأمر كما تمر الآلام على آلاف الشهداء.. كما تمر على آلاف الضحايا في ربوع وطننا العربي.. الأرامل والمسجونين والمعذبين والفقراء.. مرت كما مرت على حمزة وقد قتل، والحسين وهو يزف شهيدا، وعلى المسيح في درب الآلام، وعلى محمد وهو في الطائف يرجم بالحجارة.. دقائق ومرت ثم حلقت فوق هذا العالم.. أشفق على القتلة الجزارين أكثر مما أشفق على نفسي..

نعم قد كانت الجريمة قاسية، والغدر أكبر من التصور، لكن صدقوني كنت مشفقا على هؤلاء القتلة.. كيف أمكنهم ذلك؟.. كيف يصل التوحش إلى هذا الحد؟.. حتى الحيوانات القاتلة لا تفعل ذلك إلا لتحصل على غذائها.. كيف يتدنى البشري إلى أسفل سلم المخلوقات بهذه البساطة؟..

ربما لو أنني أقود منظمة عسكرية أو ساهمت في قتل أبرياء لكان لهم بعض التفهم، رغم أن الوحشية والجزارة البشرية لا تفهم في كل الأحيان، لكنني رجل لم أمتلك إلا قلمي.. بعضهم رأيته من قبل، وربما سافرنا سويا، أو تحدثنا على عشاء رسمي، لكنهم حين صدرت لهم الأوامر باعوا إنسانيتهم بثمن بخس، فقط لأن شخصا أو مجموعة صغيرة انزعجوا من كلماتي التي لو عدت للحياة ما تنازلت عن حرف منها.

(3)
دخلت مطمئنا، وكيف لا أطمئن وأنا بين إخواني.. مواطنيّ، بعضهم ربما لعبنا الكرة صغارا في شوارع وحارات المدينة المنورة، أو تشاركنا مقعدا دراسيا في جدة، أو حيّاني في إشارة مرور بالطائف، أو تصافحنا بعد صلاة في المسجد الحرام.. كيف لي أن أتوقع الغدر منهم وهم إخواني في الوطن والدين والإنسانية؟.. لكن يبدو أن الوطن والدين والإنسانية في مفهومهم غير تلك المعاني التي استقرت في أرواحنا..

ما أقصى ما سيفعلون معي؟.. مجرد أسئلة أو حتى تحقيقات.. لكنهم بادروا بالغدر.. في لحظاتي الأخيرة كنت أنظر إلى عيونهم.. تفادوا النظر، وانهمكوا في أداء أدوارهم الهوجاء.. بدوا لي في لحظة وقد تملكهم النزق والرعونة والحقد والإجرام.. لم يكونوا أناسا عاديين.. علت وجوههم الغبرة، وطلت من أرواحهم رائحة عفونة مربكة، انهوا الأمر سريعا كأنهم يخشون أن يستيقظ لأحدهم بقايا شعور، أو شبح عاطفة، لكنني كنت هناك كما عرفتموني أحاول الدفاع وأنا موقن بالهزيمة في تلك المعركة غير المتكافئة، صرخت فيهم لكنني لم أتوسل، حدقت في عيونهم وأنا أعلم أن هذه النظرة ستقض مضاجعهم، وتوخز ضمائرهم ما دام وجودهم المزري في هذا العالم.

(4)
لما انتهى كل شيء.. رأيتهم بعيون أخرى.. رأيتهم جلادين أخساء، رأيتهم تزوغ أعينهم، يتفحصون أياديهم المرتعشة بأسى، للدم رهبة، وللروح مهابة في نظر أي ما كان حتى لو كان ماكينة قتل مؤجرة..

اجتهدوا في إخفاء الأدلة، لكنهم مهما فعلوا لن يتمكنوا من محو نظرتي الأخيرة إليهم التي ضمنتها كل ما بي من قوة وتحد وتأنيب.. ستظل دمائي تلاحقهم.. وقسمات وجهي الفزعة غير المصدقة ببراءة تقلق منامهم.. سيرون صورتي في أقداح القهوة، وفي أطباق طعامهم، وعلى وسائدهم.. ستطالعهم عيناي إذا نظروا إلى أطفالهم، نفس البراءة.. نفس التساؤلات.. نفس الاتهامات حتى بلا صوت.. بابا هل قتلت جمال؟

(5)
أنا بخير يا كرام.. لكن قاتلي ليس بخير ولن يكون بخير.. هذه العصابة ومن وراءها سيجللون بالجريمة ما بقوا.. وستطاردهم اللعنات ما حلوا.. وسيشمون رائحة دمي على أياديهم مهما كانت لامعة ومضخمة بالعود..

(6)
سعيد بالتضامن معي، وسأكون سعيدا أكثر بأن تواصلوا التضامن، وليمتد هذا الخط الذي أمثله إلى نهايته.. الحلم بالحرية، والتوق للكرامة، والشغف بالخير لكل الناس. سأكون سعيدا أكثر إذا أكملتم تضامنكم معي، وتضامنتم مع الشهداء والضحايا والمظلومين في فلسطين وسوريا وبورما وفي كل مكان فيه مظلوم..