رغم
أن أجيالا مصرية متعاقبة حملت السلاح داخل إطار المؤسسة العسكرية الوطنية، إلا أن جيلا
واحدا من بينهم جميعا يستحق أن يوصف بـ«جيل الحرب».
الجيل
يقاس بالتجربة الفكرية والسياسية والوجدانية والنظرة إلى الحياة والقيم الأساسية، التي تحكم توجهاته ومخيلته قبل أعداد السنين المسجلة على شهادات الميلاد.
باتساع
مفهوم الجيل كان هناك جناحان رئيسيان في قصة حرب أكتوبر.
الأول
قاتل بفواتير الدم على الجبهة الأمامية حتى يمكن لهذا البلد أن يحرر أرضه المحتلة ويرفع
رأسه من جديد.
والثاني دعا بفوائض الغضب في الجامعات المصرية إلى تعبئة الموارد العامة وراء المقاتلين، وانتقد
الأداء الداخلي الذي لا يتسق مع تضحيات الدماء.
كانت
الحرب عنصرا جوهريا في تشكيل وعي جيل السبعينيات السياسي والاجتماعي والثقافي، أكثر
مما فعلت تجارب الحروب السابقة في الأجيال الأخرى.
كانت
تجربة الحرب، التي امتدت منذ حزيران/ يونيو (1967) إلى تشرين الأول/أكتوبر (1973) الوعاء الحي لصهره، وتشكيل
معنى جديد داخله للمواطنة والوطنية.
في
خنادق القتال نضجت رؤى وأفكار وقيادات، وبرزت مواهب أدبية وفنية.
الحقيقة الرئيسية من هزيمة حزيران/يونيو إلى نصر تشرين الأول/أكتوبر أن مصر كلها لا «جمال عبدالناصر» ولا «أنور السادات» صاحبة قرار الحرب الذي اتخذته تحت ظلال الهزيمة يومي (9) و(10) حزيران/يونيو (1967).
أفضل
ما قيل في وصف بطولات أكتوبر، إن الإنسان المصري العادي هو بطل الحرب. غير أن بطل أكتوبر
لم يكن من ناحية تدقيق المعاني والألفاظ إنسانا عاديا، بل جيلا كاملا صهرته تجربة القتال،
وصاغت منه تجربة فريدة.
الفارق
واضح بين نسبة النصر إلى الإنسان العادى المجرد، أو إلى صفات إيجابية مطلقة في الشخصية
المصرية، وبين نسبته إلى جيل بعينه، وإلى وعي بعينه، وإلى بنى ثقافية وسياسية ونفسية
بعينها.
إنه
الفارق بين المطلق والتاريخ.
أغلب
الذين قاتلوا في (1973) بعد ست سنوات في الخنادق، أو في معسكرات التدريب، أو في مهمات
قتالية في أثناء حرب الاستنزاف، من خريجي الجامعات المصرية، الذين أتاحت مجانية التعليم
الفرصة أمامهم لاكتساب معارف العصر.
جيل
الحرب هو نفسه جيل الثورة ومجانية التعليم والحق في الثروة الوطنية.
فرضت
ضرورات تحديث القوات المسلحة في أعقاب الهزيمة دفع جيل بأكمله من خريجي الجامعات إلى
صفوف القتال، للتعامل مع أحدث التقنيات العسكرية في ذلك الوقت.
المأساوي
في قصة هذا الجيل، أنه أرجأ طموحاته وحياته إلى ما بعد انتهاء الحرب، غير أنه عندما
عاد من ميادين القتال، وجد أن ما قاتل من أجله قد تبدد، وأن عليه دفع ثمن سياسات الانفتاح
الاقتصادي التي دشنت عام (1974) من مستقبله الاجتماعي والإنساني.
ثم
أن يرى بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب سياسات التطبيع مع العدو الذي انتظر طويلا
في الخنادق أن يواجهه.
لم
تعد إسرائيل عدونا التاريخي.
«هذا كذب.. أنا لا
أعرف من أنتم، ولا من أين أتيتم.. إن ما أعرفه جيدا أن هذا البيت بيتي، وأن واجهته
خمسون مترا بالتمام، وإذا كنت لم أفكر في إعادة قياسه منذ زمن بعيد، فذلك لثقتي بأن
الأرض لا يمكن أن تضمر بفعل الزمن».
كانت
تلك نبوءة مبكرة في منتصف السبعينيات تضمنتها مسرحية «محمود دياب» «الغرباء لا يشربون
القهوة»، عن حجم ما سوف يحدث من تجريف لأي معان حاربت من أجلها مصر.
في
نبوءة ثانية استبق التطبيع مع إسرائيل بإعلان استحالته في مسرحية «أرض لا تنبت الزهور».
لم
يكن «السادات» قد زار الكنيست ولا وقعت اتفاقية «كامب ديفيد».
«إن الحب لا يقحم
على قلوب الناس بزواج ملك من ملكة.. خذها حكمة من الزباء ولا تنسها أن أرضا ارتوت بالدم
لا تنبت زهرة حب».
«كان هو الذي رأى»
بتعبير الناقد المسرحي «محمد الروبي».
لم
يكن «محمود دياب» يتنبأ بما قد يحدث من فراغ، حيث بدأت بعض المواقف والكتابات تدعو
إلى تسوية ما، تنهي الصراع الدامي وتدين السياسات التحررية التي اتبعتها مصر في أوقات
سابقة.
هناك
فارق جوهري على المستوى الوجداني بين جيلين متعاقبين.
الذين
عاشوا الحلم بعضهم لم يستطع أن يتحمل وطأة انكساره.
كان
«صلاح جاهين» مثالا تراجيديا، فقد أصيب باكتئاب حاد.
الذين
اكتسبوا وعيهم السياسي بعد الهزيمة، رفضوها ونقدوا أسبابها ودفعوا فواتير الدم على جبهات
القتال قبل أن يعودوا ليجدوا ثمارها قد ذهبت لغير أصحابها.
في
عام (1968) أعلنت أجيال ما بعد الهزيمة عن حضورها فوق مسارح التاريخ، تطلب المشاركة
السياسية، تؤكد إرادة القتال وتدعو إلى جبهة داخلية متماسكة لا تفسح مجالا للصوص المال
العام والمتسلقين على أكتاف السلطة.
بقدر
الموهبة الاستثنائية لـ«نجيب محفوظ» في التقاط الشخصية الدرامية من قلب التحولات الاجتماعية، بدا «زعتر النوري» في «أهل القمة» تمثيلا من لحم ودم لبداية «عصر اللصوص».
بالنظرة ذاتها والتوجه أدى «نور الشريف» دورا آخر لما جرى بعد أن عاد المقاتلون من جبهات القتال،
حيث نالت بقسوة الانقلابات الاجتماعية من حياة «حسن سلطان» في «سواق الأتوبيس».
كان
ذلك الشريط السينمائي وثيقة إدانة بلغة فنية لا ادعاء فيها لعصر كامل انقلبت فيه موازين
القيم، وبدت الحالة الأخلاقية والاجتماعية في انكشاف غير مسبوق.
بالقرب
من هذه المنطقة المهجورة عرت أعمال سينمائية أخرى خيانة المثقفين، الذين تواطؤوا على
أي قيمة للعدل الاجتماعي مثل فيلم «البحث عن سيد مرزوق».
ضاعت
معاني التضحية بالدم على جبهات القتال وانتصر الزاحفون بسطوة المال.
فيلم
«كتيبة الإعدام» من تأليف «أسامة أنور عكاشة»، تعبير مباشر عن زواج الرأسمال الطفيلي مع خيانة دم الشهداء.
بالتعبير
الفني فإن التناقض وصل مداه.
وبالتعبير
التاريخي فقد ولد جيل جديد من قلب تجربة الحرب وما جرى بعدها من تحولات وانقلابات ناقضت
ما دفع ثمنه دما على جبهات القتال.
عن صحيفة الشروق المصرية