مقالات مختارة

شبح الحرب النووية!

1300x600

الأعصاب مشدودة إلى آخرها فى المواجهات المحتدمة فوق الأراضى الأوكرانية؛ خشية أن يفلت عيارها بالفعل ورد الفعل إلى حرب نووية مدمرة.


المساجلات الحادة المتبادلة تومئ باحتمالات التفلت النووي.


بتعبير الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين»: «أرجو تذكيركم أن بلادنا تملك أيضا أسلحة دمار شامل»، و«سوف نستخدم كل الوسائل للدفاع عن روسيا وشعبها»، قاصدا بصورة مباشرة الخيار النووي.
بتعليق الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، فإنه «خطاب متهور وعواقبه وخيمة»، دون أن يتراجع خطوه واحدة عن التصعيد العسكري، على أمل إلحاق الهزيمة الكاملة بالقوات الروسية، وهو ما يستحيل على موسكو تقبله تحت أي ظرف، حتى لو اضطرت للخيار النووي التكتيكي، وربما الاستراتيجي.
هكذا، فإن قواعد الاشتباك التي تكرست في سنوات الحرب الباردة بين القطبين الدوليين الأمريكي والسوفييتي على أساس الردع النووي المتبادل، تكاد تتقوض تماما الآن.


في تشرين الأول/ أكتوبر (1962)، تبدت في أزمة الصواريخ الكوبية قواعد اشتباك جديدة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد جرى تسويتها بالتوازن النووي والردع المتبادل.


بمقتضى تسوية بين الرئيس الأمريكي «جون كينيدي» والزعيم السوفييتي «نيكيتا خروتشوف»، فككت الصواريخ الموجهة للأراضي الأمريكية، مقابل ضمانات أمنية بألا يجري تهديد نظام «فيديل كاسترو»، أو محاولة غزو كوبا ثانية.


بعد ستين سنة كاملة، يخيم الشبح النووي مجددا في شرق أوروبا، دون أن تتبدى حتى الآن أية فرصة لتسوية الأزمة المتفاقمة.


بصورة أو أخرى، فإن الاعتبارات الأمنية التي دعت «كينيدي» لتصعيد أزمة الصواريخ الكوبية، تقارب دواعي «بوتين» للتدخل العسكري في أوكرانيا، حتى لا يتمركز حلف «الناتو» بأسلحته المتقدمة على حدوده المباشرة.


في سياقه وتوقيته، فإن التلويح الروسي بالخيار النووي رسالة إلى واشنطن، أن هزيمة موسكو قد تكلف العالم حربا نووية.


في خلفية تلك الرسالة، أوضاع ميدانية متدهورة بصورة لم تكن متوقعة، وأحوال انكشاف في مستويات الجاهزية والتسليح والأعمال الاستخباراتية والروح المعنوية الروسية.


كان رد الفعل الأول، إعلان التعبئة العسكرية الجزئية، التي تعني ضم (300) ألف جندي ومتطوع إلى صفوف القتال في أوكرانيا، أي ضعف القوة التي استخدمت حتى الآن.


وكان رد الفعل الثاني، إعلان استفتاءات متزامنة للانضمام إلى الاتحاد الروسي في «لوجانتسيك» و«دونيتسك» شرقي أوكرانيا، و«خيرسون» في الجنوب، كما في «زابورجيا» الاستراتيجية، التي توجد فيها ثاني أكبر محطة نووية بالعالم.


المعنى أنها أصبحت أراضي روسية تخضع لمظلتها النووية.


الفكرة بذاتها ليست جديدة على الخطاب الروسي، ما هو جديد ولافت أن موسكو أوعزت باتخاذ هذه الخطوة الآن، وبهذه الدرجة من السرعة.


أرادت ــ أولا ــ أن تعيد تعريف أهدافها من الحرب، وأن تصنع أمرا واقعا على الأرض، على ذات النحو الذي جرى عام (2014) عند ضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي باستفتاء مشابه، لم يعترف به أحد في العالم، لكنها ضمت فعليا ويصعب التخلي عنها في أية مفاوضات محتملة مستقبلا.
وأرادت ــ ثانيا ــ أن تخفف من وطأة التراجع العسكري في مناطق شاسعة شرق أوكرانيا على مواطنيها وأنصارها من قوى انفصالية داخل أوكرانيا بأن ما جرى لا يعنيها كثيرا، فهي لا تريد ضم أوكرانيا كلها، أو الاستيلاء على أراض فيها دون رضا أهلها.


بصورة أو أخرى، يحاول «بوتين» تغيير دفة حركة الحوادث لدى القادة الغربيين من «نشوة الانتصار»، والكلام حول إمكانية إلحاق الهزيمة الكاملة بروسيا إلى «صدمة الاستفتاءات»، وبناء حقائق جديدة على الأرض توفر له غطاء شرعية أمام شعبه قبل أي أحد آخر؛ «إننا نحارب عن أراضينا» دفاعا عن الذين ينتمون لغة وثقافة وانتماء إلى الأمة الروسية، ويعانون من تمييز فادح ضدهم يمنع عنهم أبسط حقوقهم الثقافية والإنسانية.


وهو يحاول أن يكتسب نفسا جديدا في حرب استنزاف طويلة الأمد، أو أن تتبدى أمام شعبه أسباب أكثر تماسكا لعمليته العسكرية، وأثمان سياسية أكثر إقناعا للعقوبات الاقتصادية القاسية غير المسبوقة التي تعرض لها.


بالوقت نفسه، فهو يحاول أن يكتسب وقتا إضافيا يكسبه طاقة الانتظار لشهور الشتاء التي قد تساعده في ميادين القتال، كما في تداعيات أزمة الغاز الروسي، إذا ما أفضت نتائجها إلى تصدعات حقيقية في القارة الأوروبية تضرب أحوال مواطنيها.


بأي نظر جدي في أطراف الحرب الأوكرانية، فهي روسية أطلسية.


حلف «الناتو» منخرط في مجرياتها، وطرف مباشر فيها دون أدنى شك، بالتمويل والتسليح والمعلومات الاستخباراتية وقيادة العمليات.


هذه هي الحقيقة التي تعرفها وتتصرف بمقتضاها الأطراف المتحاربة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، معلنة أو غير معلنة.


لم يكن مستغربا أن يعلن «بايدن» إثر تقهقر القوات الروسية، أن ذلك لم يكن ليحدث لولا المساعدات العسكرية المفتوحة التي قدمتها واشنطن وعواصم أوروبية أخرى للقوات الأوكرانية.


بتأكيدات مماثلة، تحدث جميع القادة الغربيين والرئيس الأوكراني وأمين عام حلف «الناتو» نفسه.
كان ذلك إعلانا شبه رسمي بالانخراط في الحرب، وإبداء الاستعداد الكامل للمضي فيها حتى إلحاق الهزيمة الاستراتيجية الكاملة بروسيا، وربما إذلالها وتفكيكها.


في تلك اللحظة، تبدت في واشنطن قبل غيرها، احتمالات استخدام القنابل النووية التكتيكية قبل أن يفصح عنها «بوتين»، فهو لن يقبل أن تتفكك نظرية الأمن القومي الروسي، وأن تتحلل أدوار بلاده في محيطها المباشر، أو أن يتهدد عمق أراضيه إذا ما استخدمت صواريخ أمريكية متقدمة تمانع حتى الآن في إمداد الأوكرانيين بها؛ خشية أن يفضي ذلك إلى حتمية الخيار النووي.


الإدانات المتواترة في الخطابين السياسي والإعلامي الغربي للاستفتاءات، لا تغير شيئا في حسابات القوة.


الأمر مرهون بما يحدث على الأرض من مواجهات وتبعات.


هكذا، فإن من المتوقع أن يتسع نطاق المواجهات العسكرية، خاصة في المناطق التي تُجرى فيها استفتاءات.


إذا تمكنت موسكو من التمركز العسكري والسياسي في هذه المناطق، فإنه يمكنها الحديث عن نصر أحرزته.


وإذا تمكنت القوى الأطلسية أن تجبر قواتها العسكرية على تقهقر جديد، فإنها الهزيمة الاستراتيجية.
النصر والهزيمة يتحددان وفق النتائج العسكرية في المواجهة المرتقبة التي لا مفر منها، فيما يظل الخيار النووي ماثلا في المكان.

 

(الشروق المصرية)