قضايا وآراء

الخطوط الحمراء والدين

1300x600
تُعد مشكلة الخلط بين الخطوط الحمراء التي يخطها التنظيم أو الحزب الإسلامي في التعامل مع الأطراف المختلفة، أو في بناء تصوراته بشكل عام، والدين ونصوصه المقدسة التي تحمل في طياتها الكثير من الفهوم التي لا تتنافى مع مقاصده الكريمة ومصالح المجتمع المختلفة، من أبرز المشكلات التي تقف أمام الحركات الإسلامية وممارساتها المتعددة؛ لأنَّه يؤدي إلى شيء من "التماهي" الذي يجعل من فكر بعض الحركات الإسلامية معيارا دينيا، قد يُخرج من يُخالفه من ملة الإسلام أو قد يدخله النار.

وهذا سبب لها إشكاليات عدة، أبرزها أن تُمارس الثيوقراطيه والكهنوتية اللاشعورية. وفي هذا السياق يقول الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني في كتابه مراجعات ومدافعات: "والخطورة في هذه الخطوط الحمراء، لا تقف عند جعلها من الأركان والثوابت التي لا تقبل المراجعة، بل أيضا هو أن يحل هذا المصطلح الدخيل لفظا ومعنى، الذي ليس له من مرجعية سوى النظر الفكري المحض والتقدير السياسي الظرفي، أن يحل محل المصطلحات الشرعية بمضامينها ومرجعياتها، وهكذا بدل أن يُفكر الناس بمنطق الموافقة والمخالفة لشرع الله تعالى، يُصبح تفكيرهم محكوما بمنطق الخطوط الحمراء والخضراء، وبمرجعيتها السياسية وبواعثها النفسية. وهكذا فإنَّ من يكرهون السياسة يجعلون العمل السياسي خطا أحمر، ومن يكرهون الحاكم وبطانته يجعلون الاقتراب إليه، أو التعاون معه، أو الاتصال به، أو ذكره بخير إذا أحسن، يجعلون هذا كله خطوطا حمراء، يكون انتهاكها مدعاة لأنواع من الاتهام والطعن والتجريح والتجريم".

إنَّ هذه النظرة غير الموضوعية جعل من بعض الحركات الإسلامية عنوانا للتصادمات الفردية، والقطيعة المجتمعية، والانشقاقات الداخلية، والصراعات السلطوية، مما سبب لها العزلة الطوعية التي أدت بها إلى عدم تشخيص الواقع ومشكلاته الكثيرة بشكل جيد. وفي هذا السياق يقول المفكر الإسلامي الدكتور عبد الله النفيسي في كتابه "الحركات الإسلامية رؤية مستقبلية: أوراق في النقد الذاتي": "ألا تلاحظ أنَّ التنظيم الإسلامي يقوم أساسا على السيطرة وليس على المشاورة، وأنَّ أهم عقبة تعيق الحركة الإسلامية هي طريقة التربية "حزبية" وليس تربية "اجتماعية"، بمعنى أن مخرجاتها تضخ عنصرا حزبيا يقيس محيطه على مسطرة "المقدس والمدنس" فالحزب مقدس، وأما المجتمع الأوسع فمدنس؟ وأن هذه المسطرة تعيق فهم المجتمع الأوسع لاستهدافات التنظيم الإسلامي؟ أليس كذلك؟ ثم، لماذا ينادي التنظيم الإسلامي بالحريات السياسية في المجتمع الأوسع ولماذا يحاربها داخل التنظيم؟ ما هو الموقف الفعلي للتنظيم الإسلامي من مفهوم "الحرية"؟ ثم، لماذا تغيب المؤسسات العدلية داخل التنظيم الإسلامي، مع أنه يؤكد أهمية وجودها في المجتمع الأوسع وعلى صعيد الدولة؟ ولماذا صار من السهل استدراج الحركة إلى "حروب الوكالة"، بحيث تقوم الحركة نيابة عن "النظام" بمحاربة فصيل سياسي شعبي آخر لصالح النظام؟ ثم، لماذا نلاحظ أن "نجوم المال" باتوا يقررون للحركة الإسلامية كثيرا من خياراتها السياسية، في عدة أقطار إسلامية؟ ألا تعرف الحركة الإسلامية أهدافها المفترضة؟".

هذه الأسئلة التي جاءت برسم الإجابة لم تكن وليدة الأفكار النظرية، أو التجنيات الانتقامية، وإنما كانت مجموعة من التجارب العملية، والنتائج الميدانية التي سطرها التاريخ في صفحاته المختلفة. ولنا في دخول بعض الحركات الإسلامية الانتخابات البرلمانية والرئاسية إبان الربيع العربي خير دليل، إذ لم تُفرق بعضها بين المعتقدات الدينية التي تربط الإنسان بربه وآخرته، وبين الواقع السياسي الذي تُسيره معتقدات وجب إدراكها وحسن التعامل معها حتى تستطيع أن ترقى بالمجتمع نحو الأفضلية.

وفي هذا السياق، يقول الأستاذ محمد بشير جوب، في مقاله "حركات الإصلاح الإسلامية بين مشروعي الدعوي والسياسي، ما بين حركة النهضة "التونسية" والمشروع الإسلامي في السنغال": "لم تكن المشكلة لدى أغلب الحركات الإسلامية في تبنّي السياسة، وتربية أفرادها عليه، وإنما المشكلة كانت تكمن في عدم تحول هذه العقائد الدينية لدى هذه الحركات إلى عقائد سياسية، تحكم على الواقع من خلالها، وتحدّد موقفها منه، بناء على هذه الأصولية الدينية، ولهذا وقفت بعض الحركات الإسلامية موقفا متناقضا في حكمها على الواقع السياسيّ".

ووضح أنَّ العقيدة السياسية هي مجموعة الأفكار والمبادئ والقيم التي تحدّد الموقف من الواقع السياسيّ، وتحكم له أو عليه، وتقدّم تصوّرا عاما للنظام السياسيّ؛ الذي يجب أن يحكم الدولة وطريقة سياسته للمجتمع وعلاقة السلطة بالأفراد وحقوقهم وحرياتهم، وتمثّل أبرز عناصر الضعف الذي عانى منها الحركات الإسلامية في العجز عن حل عقدة العلاقة بين العقيدة السياسية والعقيدة الدينية، وظنّت بأن العقيدة الدينية وحدها تستطيع تغيير الواقع السياسي، ولم تميّز إلا أخيرا أنّ الحركة الإسلامية هي في الأصل والواقع جماعة دينية، ترى رسالتها الرئيسية في ربط الإنسان بالله والاستعداد لليوم الآخر، ويلزم عليها بعد ذلك طرح خيارات سياسية محددة تتجاوب مع تطلعات المجتمع، وتمتلك ملكة الاختيار بين التوازنات الماثلة أمامها، كما أنَّ عليها أن تضمن تفاعل الجمهور معها تفاعلا إيجابيا، يجعل للحركة موقعا ونفوذا متميزا يستند على إنجازاتها في خدمة المجتمع.

وأضاف أنَّ حُسن توظيف العقيدة السياسية، هو الذي يجعل الجمهور يفهم صورة الحركة، ويدرك مراميها وأهدافها، ويكون جاهزا لقبولها والتّضحية معها، من أجل تحقيق برامجها، تفيد الدّراسات المتخصّصة في علم الاجتماع السياسي، أنَّ الجمهور لا يتحمس لمساندة تيار؛ إلا إذا تحقق فيه شرطان: الأول أن يفهم الجمهور مقاصد التيار وأهدافه، والثاني: أن يجد الجمهور لدى التيار حلّا لمشاكله الحقيقة التي يعاني منها، الأمر الذي لم ينطبق حتى اللّحظة على أغلب الحركات الإسلامية، وتشير إلى ذلك مقولة الدكتور حاكم المطيري، "إنَّ عدم الواقعيّة السياسيّة والتعامل الإيجابي ومراعاة الظرف الزماني والمكاني، والظروف الاجتماعية والسياسية قد يفضي بالحركات المثالية إلى العزلة والشلل والعجز عن تغيير الواقع السياسي لصالحها، لتخرج من دائرة القوى السياسية إلى دائرة التجمعات الدينية التي تعيش عالمها الافتراضي بعيدا عن الواقع وسنن التدافع".

وعليه، فإنَّ من الواجب على من اتخذوا من الحركات الإسلامية وسيلة للتغيير والإصلاح، أن يُفرقوا بين المحددات السياسية التي اجتهدوا في تفصيلها، والكبائر الدينية التي لا شك فيها أو اجتهاد؛ لأنَّ هذا التفريق يُسهل الحركة الديناميكية أمام التغيير الإيجابي، ويُعزز الوحدة الجمعية، ويقضي على العزلة الشعورية، ويجعل من مساحات الالتقاء أكثر من نقاط الخلاف التي بددت حسنات التكامل في العمل والبناء، وفتتت الصف الداخلي دون جهد أو عناء.