إنها البطولة العادية التي تحدث كل يوم، وبغير ضجيج ولا ادعاءات ولا تكريمات، ويمارسها الأغلب الساحق من كتلة المئة مليون مصري، ليس على جبهات النار ضد ما تبقى من جماعات الإرهاب الهالكة حتما، بل في تسيير شؤون الحياة اليومية، وتوفير مصاريف الطعام والشراب والسكن والملابس والكهرباء والمياه والمواصلات والتعليم والمعاملات الرسمية، وكلها زادت وتزيد أسعارها وفواتيرها على نحو جنوني، بينما مستويات الدخول غاية في التدني، وتجعل أغلب المصريين تحت خط الفقر الدولي.
ولا حاجة للتذكير بخطوط الفقر المتعارف عليها دوليا، فأقل من دولار للفرد الواحد في اليوم يجعله في خانة «الفقر المدقع»، وأقل من دولارين للفرد الواحد في اليوم تضيفه إلى خانة «الفقر النسبي»، ومع الأخذ في الاعتبار أسعار صرف العملات المستقرة في مصر اليوم، التي تصل بالدولار الواحد إلى نحو 18 جنيها مصريا، وبحسبة بسيطة، يحتاج الفرد الواحد إلى 30 دولارا في الشهر عند خط النجاة من الفقر المدقع، أي إلى نحو 540 جنيها لكل فرد شهريا، أي إلى نحو 2700 جنيه للأسرة المكونة من خمسة أفراد، ويتضاعف الرقم عند خط النجاة من «الفقر النسبي»، أي تحتاج أسرة الخمسة أفراد إلى نحو 5400 جنيه في الشهر.
وبالمناسبة، فالأرقام المذكورة تكاد تكون معترفا بها رسميا، وقال «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» بما يقاربها، ولنا أن نتخيل بعدها حجم الفقر في مصر، فأغلب الأسر بعائل وحيد، والأجور الأعلى محجوزة لقطاعات بعينها، بينما متوسط الأجور في القطاع الخاص تحت خط الفقر المدقع بمراحل، وتزيد الأجور في قطاع الحكومة وشركات الأعمال العامة، لكنها ـ على الأغلب ـ تظل تحت خط «الفقر النسبي»، وأغلب المعاشات لمن تخطوا سن الخدمة، لا تكاد تساوي نصف تكلفة «خط الفقر المدقع»، وفي مصر تسعة ملايين من أصحاب المعاشات، يتراجع أدناها إلى 750 جنيها، بعد الزيادات الأخيرة، وما يسمى معاشات «تكافل وكرامة»، لا تزيد عن بضع مئات الجنيهات في الشهر، ومتوسط أجور ملايين العاملين في المشروعات الكبرى، يتخطى حاجز «الفقر المدقع» بقليل، بينما تتجاوز أجور المهندسين حاجز «الفقر النسبي» بقليل، والصورة على هذا النحو تثير الفزع، وتكذب الأرقام الرسمية عن حالة الفقر في مصر، وهي تحصر الواقعين تحت خط الفقر في نطاق ضيق، وتعد نحو 30% من المصريين تحت خط الفقر، ودون ذكر أنها تقصد الفقر المدقع بامتياز، والرقم مضلل، خاصة مع غياب بيانات مدققة عن أي شيء في مصر، بينما الشواهد المنظورة تشير إلى وقوع ثلثي المصريين تحت خط الفقر المدقع والنسبي، تضاف إليهم شريحة أخرى ممن كانوا مستورين، ومن عداد ما كان طبقة وسطى، تزيد دخولهم المنظورة بدرجات فوق خط الفقر النسبي، لكن عملية إفقارهم تجري بنشاط، مع حرائق الغلاء الجنوني المصاحبة لتنفيذ روشتة صندوق النقد والبنك الدوليين، وجرعاتها المريرة المتوالية التي لم تكتمل بعد، والتي جعلت نحو تسعين مليون مصري شركاء في «بطولة البقاء على قيد الحياة»، فهم يصنعون الحياة ويصارعونها في الوقت نفسه.
وفي مصر أفقر شعب وأغنى طبقة في الوقت نفسه، الشعب الأفقر مكون من تسعين مليونا، والطبقة الأغنى من عشرة ملايين، لديهم ثروات أكبر من طبقة أثرياء الخليج مجتمعة، وإذا كان أثرياء الخليج «هبة النفط»، فإن أثرياء مصر راكموا خزائنهم من «هبة الأرض»، ومن الإقطاع العقاري، ومن تداخلات السلطة والثروة، ومن فساد طافح يجتاح الجهاز الإداري للدولة، ومن «اقتصاد غير رسمي»، قد يزيد عائده السنوي عن الناتج القومي الرسمي لمصر، وهو ما تعترف به علنا مراجع رسمية، فقد قدر اللواء محمد عرفان رئيس هيئة الرقابة الإدارية حجم الاقتصاد الأسود غير الرسمي، وقدّره بما يساوي ثلاثة تريليونات جنيه سنويا، وهو ما قد يفسر جانبا من الصورة الملغزة المخيفة، التي يسيطر فيها المليارديرات والمليونيرات على أغلب ثروة مصر الفعلية، فنحو مليون مصري هم من المليونيرات والمليارديرات بالحساب الدولاري، ونسبتهم إلى إجمالي السكان نحو واحد في المئة، وفي يدهم نحو نصف ثروة البلد، وتسعة ملايين آخرين يدورون في أفلاكهم، وترمى إليهم عوائد تجعلهم من ذوي مئات الآلاف من الجنيهات، ويحوزون في جملتهم نحو ربع إجمالي ثروة مصر، فيما لا يتبقى لشعب التسعين مليون مصري سوى ربع الثروة الأخير.
وهذه خرائط جحيم لا خرائط حياة، وتناقضات تهد حيل البلد، وتضعف الثقة العامة في سلامة الطريق لإنهاض الاقتصاد، وتقسم مصر إلى «مصرين»، بغير خطوط ربط ولا ضبط، وقد تكونت الثروات المهولة الطافية في أغلبها خارج القانون وضوابطه، وبشراكة مع بيروقراطية متواطئة ضربها سوس الفساد، وراكمت نفوذ طبقة الناهبين في مصر، وبنشاط واسع ممتد من تجارة الآثار إلى تجارة الأراضي، وبإعفاءات وجمارك وضرائب عشوائية امتدت لعقود، وتخصيصات أراض بالمجان، أو بأسعار رمزية، وبخصخصة أهلكت أصول ومصانع الدولة مقابل تراب الفلوس، وبتحطيم شامل للقلاع الإنتاجية الكبرى، ودون أن يؤدي تضخم ثروات الطبقة الناهبة إلى إضافة إنتاجية ذات مغزى، بل إلى قوة مالية فلكية مجردة من الضمير والطابع الاجتماعي الوطني، تعيش منعزلة في القصور و«الكومباوندات» والمنتجعات، ولا يربطها بالبلد سوى «الزواج العرفي» مع السلطات المتنفذة، ومع تهرب شامل ممنهج من أداء الضرائب، فقد بلغ حجم تهرب الكبار من الضرائب رسميا نحو 400 مليار جنيه سنويا، هذا في ما يخص الدخول المنظورة، فما بالك بعالم الاقتصاد الأسود، وكل هذا تعرفه المراجع الرسمية، ولكن دون وقفة ولا قرار حاسم نهائي، لا بكنس الفساد واسترداد عوائده إلى الشعب المطحون، ولا بفرض نظام الضرائب التصاعدية، ولا بتهديدات مدوية كالتي أطلقها الرئيس السيسي في بدء ولايته الأولى، وأطلق فيها قولته الشهيرة «هتدفعوا يعني هتدفعوا»، ولم يدفع أحد إلا من قليل، بل قاموا بحملة هجوم عكسي، أجبروا فيها الحكومة على إلغاء قرار الرئيس بفرض «ضريبة اجتماعية» على الكبار، وجمدوا قرار الرئيس بفرض ضريبة محدودة على الأرباح الرأسمالية في البورصة، وزادوا معاشات الوزراء بصورة طفرية، ويستعدون لأخذ ما تيسر من كعكة الشركات العامة المقرر طرحها في «خصخصة» البورصة، ناهيك عن تهريب مئات مليارات الدولارات إلى خارج البلاد.
والعلاقة ظاهرة بين الثراء الفاحش والفقر المستشري، فمصر بلد غني جدا بموارده وإمكانياته، لكنها تعرضت لعملية «شفط» مريع عبر أربعة عقود وتزيد، تضاعف فيها تفاوت الثروات إلى حدود مرعبة، وتفاقمت فيها مظاهر الترف والاستفزاز على السطح إلى حد جنوني، ودون انضباط حتى على قواعد السوق الحرة، فكل شيء في مصر إلى غلاء لا يرحم، حتى لو زاد العرض على معدلات الطلب، تأمل ـ مثلا ـ إعلانات التلفزيون، فثمة قصور تطرح للبيع يصل سعر الواحد منها إلى 130 مليون جنيه مرة واحدة، ويجد من يشتريه بـ«فكة» في جيبه، وثمة ارتفاع مهول في سعر متر العقارات، يصل إلى 25 ألف جنيه، ويجد من يشتري ويتسابق بالمناكب، ومدن جديدة ومنتجعات أحلام و«مارينات» وشاليهات بأسعار تفوق الخيال، وتجد من يشتريها، بل ويغلقها ويشتري غيرها، ولا يزورها إن زار سوى مرة واحدة في السنة، ففي مصر عشرة ملايين وحدة سكنية مغلقة، تفوق عدد المحتاجين الذين لا يملكون ما يدفعون، ودون أن تتوقف الأسعار عن التضاعف اللانهائي، وعلى طريقة منتجعات الساحل الشمالي، التي ضاعت فيها تريليونات الجنيهات، كانت كفيلة بإعادة تصنيع شامل لمصر، وخلق فرص عمل جديدة منتجة لملايين العاطلين، ففي مصر يصل مليون شخص تقريبا إلى سن العمل في كل عام، لن تحتوي طاقتهم ولا طموحهم أعمال المقاولات الجارية، التي لا تتيح سوى فرص عمل موقوتة، وبعوائد لا تكفل سوى البقاء عند حدود خط الفقر، وهو ما يفاقم روحا من الإحباط العام، لا تكاد تخفف منها إنجازات إنشائية كبرى وطرق وأنفاق عظمى ومحطات طاقة ومشروعات مياه، تحشد لها الدولة موارد هائلة، لكنها لا تصل بآثارها الفورية إلى قطاعات المصريين الأوسع، المشغولة بالتحايل على المعايش، وقضاء اليوم كله في أكثر من عمل، وعلى نحو يستنزف الطاقة الإنسانية، ويرهق النفوس المصدومة بما تراه من تناقضات بلا آخر، لن تنفع في علاجها شعارات وأناشيد، فأن «تحيا مصر» تعني أن يحيا المصريون بكرامة، لا أن تموت غالبيتهم في جلودها، وهي لا تحصل سوى على فتات من ثروة البلد، لا يتبقى غيره بعد «شفط» غالب الثروة إلى موائد الأغنياء الناهبين، وقد تشيد المراجع الرسمية بصبر شعب التسعين مليون معان مصري، لكن الكلمات لا تطعم من جوع، ولا تحمي من خوف، والمطلوب ترجمة الأقوال إلى أفعال، وهو ليس صعبا ولا مستحيلا، ويلزمه فقط توافر الإرادة السياسية، وتفكيك الاحتقان السياسي، والتصنيع الشامل مدنيا وعسكريا، وعلى نحو ما لاحت تباشيره في مصانع عملاقة افتتحت أخيرا، وخوض حرب تطهير شامل، وتنفيذ الوعود المقطوعة بكنس الفساد، وليس شن غارات متقطعة عليه، وإقرار أولوية العدالة في تحمل أعباء اقتصاد الدولة المنهك، وليس التجبر على الفقراء والطبقات الوسطى وحدها، وترك السيادة على قرارات الحكومة للأغنياء الناهبين، بينما تترك أغلبية المصريين وحدها في مواجهة طوفان الغلاء، تواصل بلا أمل وبلا ضمان «بطولة البقاء على قيد الحياة».
عن صحيفة القدس العربي