قبل سبع سنوات، كان يصح الحديث عن ثورة شعبية سلمية تطلب الحرية في سوريا، بدأت بشعار أطفال درعا «الشعب يريد إسقاط النظام»، لكن الشعلة ذوت سريعا، وفي تسعة شهور أكملت عام 2011، ثم حلت الثورة على سوريا محل الثورة في سوريا، وبدأت حرب تحطيم سوريا، التي اندفع إليها النظام المستبد الدموي، وشاركته فيها قوى وحشية أصولية على الجانب المقابل.
ثم تحولت المأساة إلى حرب إقليمية، وإلى حرب دولية، ضاعت معها ملامح سوريا التي كنا نعرفها. وربما لا نكون بحاجة إلى عودة لتفاصيل دامية، ولا إلى ما جرى من هلاك للحرث والنسل، وتحويل نصف الشعب السوري إلى لاجئين ونازحين، والتدمير المفزع لنصف مدن وقرى سوريا، ونهاية أي «معنى سوري» للقضية السورية، فلم يعد من طرف سوري يملك أمر نفسه، لا ما تبقى من النظام، ولا ما تبقى من المعارضة، اللهم باستثناء جماعة «هيئة التنسيق» التي رفضت العسكرة، والتدخل الأجنبي من البداية.
ولم يعد الحلم ممكنا بسوريا أفضل في المدى المنظور، بل أصبح السؤال في مكان آخر، وأصبح التساؤل المطروح عن ماذا سيتبقى من سوريا، وبأي صورة، وبحسب إرادات وصراعات القوى المتحكمة في الوضع السوري الجديد.
وأول ما يطالعك في سوريا اليوم هو الوجه الروسي، فقد دخلت سوريا في مرحلة انتداب استعماري جديد، تماما كما الانتداب الفرنسي القديم عقب الحرب العالمية الأولى، الذي أكمل سيرة فصل لبنان عن سوريا، وأهدى «لواء الإسكندرونة» لتركيا، في وقائع الحرب العالمية الثانية، وهكذا يتصرف الانتداب الروسي الجديد في ظروف مغايرة، خصوصا مع امتلاكه قوة الحسم الناري في الحرب الدولية التي دارت على أرض سوريا، ومن خلال وكلاء إقليميين وعرب، فقد تراجع دور فوائض المال الخليجي، وضاعت هباء عشرات ـ ربما مئات ـ مليارات الدولارات التي ذهبت لدعم جماعات أصولية وإرهابية ومدعية للإسلام، نجح التدخل الروسي في سحقها إلا قليلا، فلم تكن إيران الحليفة للنظام قادرة على الفوز، لو لم تتدخل روسيا بالقصف الجوي المريع، ما جعل الدور الإيراني يتراجع إلى مرتبة متأخرة، خصوصا بعد أن وضعت روسيا مصالحها واعتباراتها في المقام الأول، ونسجت علاقات تفاهم تخصها مع الأمريكيين والإسرائيليين، وحولت الوجود الإيراني إلى ورقة لعب في اتفاقاتها الضمنية مع الأمريكيين، ما جعل تركيا هي الأخرى تلتحق بالركب الروسي، فلا فرصة لأخذ نصيب من الكعكة السورية سوى بإذن الروس، وهكذا أصبحت روسيا هي الحاكمة بأمرها في دمشق، فهي التي تضع الخطط، وتدير المعارك، وتجري المصالحات والمساومات، ومن وراء قناع اسمه حكومة بشار الأسد، وبقوات على الأرض، هي خليط مما تبقى من الجيش العربي السوري والجماعات الموالية لإيران، وهؤلاء يدفعون ضرائب الدم، فيما تعمد روسيا إلى نخفيض خسائرها البشرية إلى أدنى حد، وتملك «كلمة السر» في أي تقدم ميداني على الأرض.
ومن معارك السيطرة على حلب، وحروب استعادة «تدمر» إلى «دير الزور» و«البوكمال»، إلى معارك استعادة السيطرة على دمشق وما حولها، والتقدم لإنهاء وجود فصائل المعارضة «إياها» في الجنوب، والخطوة المقبلة ستكون في «إدلب»، التي يسيطر عليها خليط متنافر من الجماعات المسلحة، أهمها «جبهة النصرة» التي غيرت اسمها مرارا، لكنها ظلت تحظى بالوصف الإرهابى دوليا، وهو ما يسهل مهمة روسيا في الشمال السوري، ولديها قوة الحسم الجوي الكاسحة، ولن تعترض تركيا أو تقاوم، فلديها الشريط الشمالي الذي تحتله، من «جرابلس» إلى «تل رفعت»، وهي تريد من روسيا أن تحفظ لها مصالحها، بينما موسكو لا تريد إعطاء جواب نهائي الآن، وتعطي حكومة بشار توجيها بالتفاهم مع الأكراد في شمال شرق سوريا، وتعطي الأولوية لتقليص الوجود الأمريكي هناك، وهو ما لن تمانع فيه واشنطن إلى وقت طويل، وتكتفي بمساومة موسكو على «قصقصة ريش» وجود إيران وحزب الله في سوريا، وبهدف حماية أمن إسرائيل.
سوريا ـ إذن ـ تحولت إلى وضع المحمية الروسية، وقد سعت موسكو، وربما نجحت، في إحراز أكبر قدر من السيطرة بأقل قدر من التكلفة، وسارعت باستثمار قوتها العسكرية المتفوقة، وحولت سوريا إلى حقل اختبار ميداني لأجيال متقدمة من طائراتها وقنابلها وصواريخها، ودون أن تتورط بجنودها كثيرا في حرب استنزاف بري، تعيد ذكريات حرب أفغانستان التي أهلكت الاتحاد السوفييتي السابق، وكان الحساب الروسي دقيقا إلى أبعد حد، فحالة الاقتصاد الروسي لا تحتمل استنزافا في حروب مكلفة، وكان على موسكو أن تستعين بآخرين، وأن تجند طاقاتهم لحسابها، فهي تحسم المعارك على الأرض بقوات سورية أو موالية لإيران، ثم إن عندها مددا اقتصاديا من الصين الحليفة الغنية، التي تتقدم الآن لدور في ورشة إعادة إعمار ما دمرته الحرب في سوريا، كبديل احتياطي لإحجام معلن من دول الاتحاد الأوروبي، وهو الإحجام الذي لن يستمر طويلا، فتوازن القوى هو الذي يحكم في النهاية، وقد غيرت روسيا موازين القوى على الأرض السورية، كان بشار الأسد لا يملك سوى أقل من 20% من الأرض قبل التدخل الروسي، وفي أقل من عامين مضيا على التدخل الروسي المكثف في سبتمبر 2016، زادت مساحة الأرض المنسوبة للنظام إلى نحو 70%، تسعى روسيا لزيادتها قريبا إلى ما فوق الـ90%، بعقد اتفاقات تسوية مع الأكراد شرق نهر الفرات، وبالحرب الأخيرة المتوقعة لطرد «جبهة النصرة» من محافظة إدلب في الشمال السوري، وعقد صفقة أخيرة مع الأتراك في قرى ومدن الشريط الحدودي، ودفع بشار الأسد للحد من الوجود العلني المقلق للإيرانيين، في تحرك مقصود لطمأنة أمريكا ودولة الاحتلال الإسرائيلي، لن يصل بطبيعة الحال إلى إلغاء الوجود الإيراني كليا، فموسكو لها مآربها في التلاعب بورقة إيران، ولا يعقل أن تضحي بمصالحها الإيرانية في صدام كوني على النفوذ مع الأمريكيين.
موسكو ـ إذن ـ تلعب بحساب، وجعلت من «مهلكة» سوريا ممرا إلى نظام دولي جديد، تذوي فيه أحادية السيطرة القطبية الأحادية لواشنطن، ويتخلق فيه توازن سلاح واقتصاد جديد، بتحالف «شنغهاي» الجديد مع الصين وقلب آسيا، وباستثمار ذكي لورقة كوريا الشمالية وترسانتها النووية، ولوقائع الحروب التجارية الرعناء التي تديرها واشنطن مع جوارها ومع الاتحاد الأوروبي ومع الصين، وكانت حروب السلاح في سوريا هي الفاتحة لترسيخ نظام دولي تعددي جديد، وبدت فيها موسكو، وكأنها تقدمت لنصرة نظام حليف كان مهددا بالتداعي، وبطلب مباشر منه، أضفى «شرعية» صورية على التدخل الروسي، استثمرتها روسيا لإنشاء وتعظيم قوة قواعد عسكرية كبرى على الساحل السوري، جعلتها لاعبا مباشرا ومجاورا في المنطقة، ينسج علاقات متوازية مع المحاور المتصادمة، ويمد نفوذه إلى مناطق تحكم الأمريكيين التقليدية في الخليج العربي، ويؤثر في اطراد على ما يجري شرق سوريا في العراق، ويزيد من ثقل علاقاته المتطورة مع مصر، ويريد الدخول كطرف مؤثر في إعادة تشكيل ليبيا. فهدف الانتداب الروسي في سوريا أكبر من سوريا بكثير، وكلمة روسيا العليا في سوريا، تعطيها اليد الأعلى في تسويات تريدها لصالحها، حتى في الجوار الروسي المباشر، في حروب أوكرانيا وجورجيا، والصدام مع حلف الأطلنطي في شرق أوروبا.
وطبيعي، أن تريد روسيا بقاء حكم بشار الأسد في «قصر المهاجرين» بدمشق، ليس حبا طبعا في بشار ولا في جماعته، فهي ـ أي موسكو ـ لا تفوت فرصة إذلال علني لبشار، إلا وفعلتها، وعلى نحو خشن فظ غليظ القلب، كما في مشاهد تعنيف ضباط روس لبشار في «قاعدة حميميم»، أو في دوس الشرطة الروسية على أعناق «المعفشين» من جنوده في دمشق، وكان الإذلال العلني مقصودا، وحتى لا يكون ثمة التباس في هوية من له الملك اليوم في سوريا، فبوسع روسيا أن تدعي أنها ليست قوة احتلال، وأنها «شرعنت» وجودها باتفاق رسمي مع حكومة سوريا العضو في الأمم المتحدة، وأن قواعدها العسكرية موجودة ببروتوكولات رسمية ممتدة لعشرات السنوات، وهو وضع مريح لروسيا، التي لا تملك بديلا مواتيا مطواعا في سوريا أكثر من بشار وجماعته، وقد تسعى لاجتذاب آخرين، وهي تفعل، لكن البدائل ليست جاهزة ولا ناضجة بما يكفي، ولا يعقل أن تضحي روسيا ببشار طلبا لمجهول، خاصة أن بدائل بشار الأصولية و«الإسلامية» لم تعد مطلوبة، لا من روسيا ولا من أي طرف دولي آخر مؤثر، وما تبقى من هؤلاء «الإسلاميين»، ذهب إلى حضن الحماية التركية، ويعملون تحت إمرة الجيش التركي في الشريط الحدودي، ومصائرهم معلقة بما يجري داخل تركيا نفسها، وبقدرة الحكومة التركية «الإسلامية» على طلب مزايا من الدب الروسي، ولكن دون مناطحة هدف روسيا في الإبقاء على حكم بشار الأسد، وهو ما لم تعد تنازع فيه أمريكا نفسها، ولا تمانع فيه إسرائيل، ولا أطراف عربية خليجية دفعت عشرات مليارات الدولارات لإسقاط الأسد، فوق أن الداخل السوري منهك ومحطم بما فيه الكفاية، ويريد الخلاص من المأساة بأي طريقة، حتى لو كان الثمن بقاء الأسد تحت حكم الانتداب الروسي، وإلى أن تنهض حركة وطنية جديدة تستعيد سوريا للسوريين.
القدس العربي