ليس الغاية من كلامي اليوم التشهير بممارسات عناصر الجيش التابع للبرلمان والذي يقوده خليفة حفتر، وليس الهدف من كتابتي هذه السطور مجرد إدانتها، إنما أردت أن أعود إلى ما يهمني في واقعنا المرير وهو كيف تتعامل النخبة مع تجاوزت متكررة ومستمرة سواء بتبريرها بشكل غير مباشر أو السكوت والتنحي جانبا.
وقعت ممارسات عديدة موثقة بالصوت والصورة أثناء عملية اجتياح مدينة درنة تكرارها وقبحها يبرر وصفها بالسلوك الممنهج دون تردد.
ونقف عند واقعة حرق مكتبة خاصة ضخمة، وأعجب أن الإخوة من المثقفين من كتاب وصحفيين وغيرهم ممن يناصرون الجيش وعملياته لم يدينوها بأشد عبارات الإدانة.
يا إخوة أكرر للمرة المائة ولن أمل أو أكل من التكرار إن هذه الأحداث المتجددة والمتسمة بالوحشية وبالجهل والتي تصطحب ممارسات كانت مبرمجة في العهد السابق لا يمكن أن يمكون نتاجها خيرا إذا استمر الصمت عنها، ولم يتم إدانتها بشكل واسع داخل جبهة الشرق من قبل مختلف أعيانها ومثقفيها ونشطائها.
هذه الممارسات تكشف عن تفكير منحرف انحرافا خطيرا ونفسية متشبعة بسلوك هدام يتعامل مع كل ما هو مخالف بعنف متعدد الأشكال من تعذيب وقتل خارج القانون واغتصاب أملاك ومصادرة أموال وحرق البيوت والمكتبات.
المدى الزمني بعيد بين الممارسات البشعة التي وقعت منذ ما أطلق عليه "الثورة الثقافية" مطلع سبعينيات القرن الماضي على يد نظام القذافي، لكن لا يمكن بحال الفصل بينها وبين ما يقع اليوم من ممارسات مطابقة، لأن العقلية والنهج والغاية واحدة.
العقلية متمردة، والنهج عنفواني والغاية هي إقصاء الآخر جسدا وفكرا، ولو كانت هذه الأعمال مرفوضة ولا تتصل بالعقلية المتمردة والنهج العنيف وغاية الإقصاء النهائي لتم إدانتها بشدة على أعلى المستويات ولما تكرر وقوعها مرات ومرات.
من يتصور أنه من الممكن بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية سقف الحريات فيها مرتفع في ظل تلك الممارسات وما يقترن بها من عقلية ونهج وغاية فهو يغالط منطق الأشياء ويصادم وقائع التاريخ الحديث والقديم، فاليوم العدو ضمن المعسكر المناوئ وغدا سيكون من داخل الجبهة المؤيدة وأنصار اليوم سيكونون العدو غدا.
المشهد الثاني لشخص يرتدي بزة ضابط في الجيش وخلفه عدد من الأنصار بعضهم مسلح ويترنم بكلام على وزن وقافية النشيد الوطني، وبغض النظر عن الموقف من النشيد وما يمكن أن يقال بخصوص مشروعيته، فإنه واقعيا هو النشيد الوطني الرسمي الذي هو جزء من مظاهر سيادة الدولة، والاستهزاء به ومن قبل عناصر الجيش سلوك منحرف ينبأ عن خلل كبير.
المشهد الثالث كلام لضابط يصف عمر المختار بأقذع الألفاظ ليس أقلها أنه قاطع طريق بما يتضمن أنه زعيم عصابة قطاع طرق، وعمر المختار ليس فقط رمزا للكفاح ضد مستعمر أنهك البلاد وقضى على ثلث سكانها، بل هو رمز للجهاد والنضال تفتخر به الأمة بين الأمم في مجابتها للاستعمار، ويكفي أن تقرأ رثاء أمير الشعراء، أحمد شوقي، له لتعي ما أقول.
رمزية تاريخية يُجمع كل الليبيين على مكانتها توصف بهذه الأوصاف من قبل ضابط في الجيش فتمر الحادثة بشكل عارض، ولو نعت شخص داخل مناطق نفوذ الجيش خليفة حفتر بوصف مشابه لكان مثواه مكب قمامة، لا يختلف في ذلك اثنان حتى من بين أنصار المشير.
وتعقيبا على ما وقع وردود الفعل عليه خاصة التبريرية، أقول ان أهم وأخطر مراحل التأسيس لأي مؤسسة عسكرية كانت أو مدنية إنما تكون في البدايات وفي مواجهة التحديات وأثناء الأوقات الصعبة.
وأن تترك الأمور سبهللة بحجة أننا في ظرف قاهر وأزمة خطيرة ونواجهه إرهابا إنما هو من قبيل دس الرأس في التراب وتعمية عن انحرافات الجيش التي ظهرت أثارها بجلاء وستكون التداعيات أكبر عندما تنتهي العلميات العسكرية.
والفرق الجوهري بين من يسعى لتأسيس مؤسسة عسكرية منضبطة ورائدة وبين من يرمي لملمة تجمع مسلح يحقق به أهدافا خاصة هو أن الأول لا يتساهل مع التجاوزات ويقف بحزم أمام الخروقات ويسعى في كل مناسبة لتثبيت العقيدة العسكرية الصحيحة في عقول عناصر مؤسسته بشتى الوسائل ومنها الردع والعقوبة.
أما الثاني فيهمه أكثر استعداد المقاتلين لمناصرته والاستمرار في الاستجابة لمشروعه القتالي ويُقدم على تمرير بل تبرير انحرافاتهم لأنها تخفف من الضغوط الواقعة عليهم جراء القتال وخسائره الكبيرة وترهب من خلفهم ممن لا يخضعون للقائد العسكري وطموحه.
وهذا في حد ذاته مؤشر خطير وكاف لدفع النخبة السياسية والاجتماعية والثقافية ضمن معسكر البرلمان والجيش لتحمل المسؤولية في تقويم هذا الانحراف الكبير.
أخيرا ينبغي أن أقرر أن هذا السلوك وهذه الممارسات مرفوضة ومدانة عندي سواء وقعت في بنغازي ودرنة أم كان مسرحها طرابلس ومصراتة، ومستنكرة بقوة ولا مجاملة ومحاباة لأي طرف مهما تسمى.
لكني أقول للإخوة النخبويين إن فرقا كبيرا بين أن يتورط فيها "الجيش" أو تقع على أيدي "مليشيات"، فمعظمكم أو شريحة كبيرة منكم يعتقد أن من يتحكم في طرابلس ومصراتة ومدن الغرب الليبي مليشيات وأن الجيش النظامي، وهو النموذج الأمثل للمؤسسة العسكرية، موجود فقط في الشرق، وأنكم عاديتم المليشيات وناصرتم الجيش لأن الأولى ديدنها الانحراف والجيش جاء ليقضي على مظاهر انحرافها، وهنا تقع المفارقة بل الازدواجية المقيتة.