الأولى بالتاء المربوطة ... والمقصود كرة القدم، والثانية بالهاء، والمقصود ذلك الشعور الأسود الذي يمكن أن يتملك قلب الإنسان، وقد يعميه، وقد يدفعه إلى فعل ما لا تحمد عقباه.
مع انطلاق مباريات كأس
العالم ثارت أسئلة كثيرة، لعل أهمها سؤالان، الأول : هل وصلت بنا الحالة المزرية
إلى درجة كُرْهِ الوطن؟ بمعنى آخر ... هل أصبحنا نكره أوطاننا؟
* * *
في رأيي الشخصي إن
غالبية ما نراه اليوم من تمنٍ لهزائم المنتخبات الوطنية ليس كُرْهًا في الأوطان بقدر
ما هو كُرْهٌ في الأنظمة المستبدة التي حوّلت الأوطان إلى إقطاعيات خاصة، يتحكم
فيها ويحلب خيراتها أقذر خلق الله من الحكام المستبدين.
هؤلاء لا يكرهون
أوطانهم، بل يكرهون من يمثل هذا الوطن، يكرهون الحاكم الفرد الذي ينتهك كل القيم
والقوانين، يكرهون شرطته التي تحمي السارقين، وتدير الجريمة، وتشارك العصابات،
وتورد البلطجية في كل موقعة من مواقع الاشتباك مع المظلومين، وتطلق الرصاص في
القلب والعين في لحظات الغضب الشعبي.
يكرهون كل مؤسسات
القوة التي تقصف الأبرياء، وتخرجهم من ديارهم، وتهجرهم قسريا، وترمي عليهم
البراميل المتفجرة.
يكرهون أصحاب الكروش
والنياشين الذين يطالبونهم دائما بالتقشف، ويتهمونهم بالجحود، ويعيرونهم بالدعم !
قد يسأل سائل ... ولكن
ما ذنب منتخبات الكرة؟
والإجابة من زاويتين
... الزاوية الأولى أن الفصل بين المنتخبات وبين الحكام أصبح شديد الصعوبة،
فالحاكم دائما يحرص على أن يستغل الإنجازات الرياضية – وخصوصا كرة القدم – على
أنها انتصار شخصي له، وعلى أنها إنجاز سياسي لعهده.
هناك من تشكك في الدين
بسبب استغلاله في السياسة، وكره علماء الدين بسبب تدخلهم في السياسة، فما الغريب
إذن حين تنشأ هذه الحساسيات حين ندخل الكرة في السياسة!؟
لتلكم الأسباب ترى
كثيرا من الناس يتمنون خسارة منتخباتهم لكي ينغصوا على حكامهم، أو لكي يقطعوا
الطريق على الحاكم الظالم في التفاخر بإنجازه المزعوم.
كما أن بعض الناس
يتمنى هزيمة هذه الفرق لعل الناس تفيق من غفلتها، أو خوفا من استغلال هذه الأحداث
في رفع الأسعار (وهو ما يحدث حاليا في مصر مثلا).
الزاوية الثانية هي أن
غالبية هؤلاء اللاعبين وقفوا دائما مع الحكام الظلمة (مثلهم مثل غالبية الإعلاميين
والفنانين)، فأكدوا انطباع كثير من الناس، وأصبح هؤلاء يرون هذه الفرق والمنتخبات
لا تمثلهم ... إنه فريق الحاكم، لا فريق الشعب، هزيمته مكسب للنظام، وخسارته خسارة
للنظام، لذلك أصبح كثيرون يتمنون هزيمة هذه الفرق أكثر مما يتمنون انتصارها.
ذاكرة الشعوب تتذكر أن
غالبية هؤلاء اللاعبين وقفوا في لحظات الغضب الشعبي مع الظالم لا المظلوم، ولذلك
ستجد هذه الشعوب تتذكر اللاعبين الذين كانوا استثناء من هذا الموقف الذي اتخذه
غالبية المنتمين للحقل الرياضي (وخصوصا كرة القدم)، فترى الناس ما زالت تحترم كل
لاعب أو رياضي تحيز للناس، ورفض أن يكون عونا للظالم.
* * *
السؤال الثاني هل وصلت
حالة الكُرْهِ إلى الشعوب؟ هل أصبحت الشعوب العربية تكره بعضها؟ وانتقلت حالة
البغضاء والعداء من الأنظمة إلى الشعوب ذاتها؟
الإجابة مؤلمة، يحاول
كثيرون أن يلتفوا عليها، ولكن الحقيقة واضحة ... لقد انتقلت حالة العداء إلى
الشعوب، وهناك شرخ اجتماعي في علاقة الشعوب العربية بعضها ببعض.
لا يمكن لعاقل أن
يتجاهل ما حدث في مباراة (السعودية وروسيا) في الرابع عشر من يونيو 2018 في افتتاح
كأس العالم في موسكو، وكيف كانت ملايين الدعوات ضد المنتخب السعودي، وكيف كانت
الفرحة والشماتة عارمة بعد خسارة المنتخب السعودي.
لأن المنتخب السعودي
يمثل حاكم المملكة، ولا يمثل الشعب، تمنى ملايين العرب أن يخسر المباراة.
كيف لا نعذر يمنيا
يعيش تحت القصف السعودي منذ عدة سنوات، ويعاني هو وأبناؤه من القتل والاعتقال
والمجاعة والكوليرا ... كيف لا نعذره حين يفرح لخسارة فريق كرة سعودي !؟
كثير من المصريين يرى
المملكة العربية السعودية قوة احتلال، تحتل جزء عزيزا من تراب الوطن، جزيرتي تيران
وصنافير (والحقيقة أنه لا يمكن وصف هذا الأمر إلا بأنه احتلال).
كيف لا يسعد من يرى
تلك المملكة قوة احتلال بهزيمة منتخبها في مباراة؟
* * *
إن العلاقة بين الناس
البسطاء في الدول العربية قد تغيرت في السنوات الأخيرة بسبب الأنظمة الحاكمة التي
لا ترحم الناس !
من يظن أن الشعب
السوداني ما زال ينظر بالودّ نفسه إلى الشعب المصري فهو مخطئ، لقد تغيرت نفوس
كثيرين، وهم معذورون في ذلك، فاستمرار الإساءة لعشرات السنين من الأنظمة الحاكمة
... لا بد مع الوقت أن يؤثر على الشعوب.
هذا الأمر ينطبق على
علاقة الشعب المصري مع الشعب الفلسطيني، ومع الشعب القطري مع بعض دول الخليج بعد
حصار قطر، وينطبق على علاقة الشعب اليمني مع الشعب السعودي، وينطبق على كثير من
الحالات التي لا مجال لذكرها الآن.
لا بد أن يفهم الجميع
أن هذه الأنظمة التي تحكم الوطن العربي تمزق النسيج الاجتماعي الداخلي في أوطانها،
كما أنها تمزق العلاقات التاريخية بين الشعوب العربية، وما أظهرته كرة القدم الآن
... قد تظهره حروب شعواء غدا !
إن حالة الكُرْهِ التي
نراها اليوم ليست إلا إنذارا بأن القادم – إذا استمر هؤلاء في السلطة – أسود، وهم
لا يؤتمنون على وطن، ولا مجال لتركهم في قصورهم أكثر من ذلك.
لا تطالبوا الشعوب بأن
تتعالى على الصغائر، ولا تحدثوا الناس عن حب الوطن، بل أزيلوا هؤلاء الزبانية
الذين كَرّهوا الناس في أوطانهم، وستعود الأمور إلى نصابها، وسترى الناس يفدون
أوطانهم بأرواحهم، تماما كما حدث في ثورات الربيع العربي العظيمة.
الخلاصة : نحن لا نكره
أوطاننا ... بل نكره من يحاول أن يُكَرِّهَنا فيها !
عبدالرحمن يوسف
موقع الكتروني : www.arahman.net
بريد الكتروني : arahman@arahman.net