من الصعب تخيل بشار الأسد حاكما لسوريا على نحو ما كان يحكمها قبل عام 2011، ومناسبة هذا الاستنتاج، تسجيله مزيدا من «الانتصارات» في سياق سحقه المدن السورية هو وحلفاؤه الروس والإيرانيون. فها هو اليوم مع حلفائه على أبواب مدينة جديدة ستدخل دباباتهم على ركامها بعد أن حولتها طائراتهم إلى مقبرة جماعية.
لكن ماذا بعد؟ وهل ستستقر لهم السلطة؟
الأسد سيعود رئيسا لدولة قتل أكثر من خمسمئة ألف من مواطنيها!
وستكون عصب سلطته فيها طائفة صغيرة قُتل أكثر من 80 ألفا من شبانها في سياق
دفاعهم عنه. وستمتد سلطته إلى أكثر من عشر مدنٍ مدمرة جزئيا أو شبه كليّ! وسيكون
شريكه في حكمها دولتان (روسيا وإيران) لكل منهما مشاريع وأحلاف وطموحات متفاوتة!
ولدولة ثالثة (تركيا) حصة يبدو أن شريكاه قد اعترفا لها بها!
العالم بدوره لن يشعر براحة نتيجة عودة الأسد إلى ناديه، وبهذا
المعنى ستكون دولة الأسد في سوريا عاجزة عن الانضمام إلى الكثير من الشراكات، ما
سيعيق اندراجها كدولة طبيعية في الهيئات الدولية! أما العالم العربي، فسيصعب عليه
هضم الدولة المنبعثة من صلب المجزرة السورية، وهو ما سيجعل مهمة بشار الأسد بلا أي
أفق عربي! وإسرائيل نفسها لن تلاقي أي رغبة من قبل النظام بشيء من الرغبة أو
الحماسة، وطهران لن تُسهل على بشار المهمة إذا ما رغب فيها.
السؤال هنا، لماذا يُقاتل بشار الأسد، ولماذا يضيف إلى سجله مزيدا من الدماء؟ من المؤكد أن الحرب لم تعد حربه طالما أنه يدرك أن لا عودة إلى ما قبل
عام 2011. فمنتظري «النصر» لا يفعلون ذلك متوقعين عودته رئيسا كما كان قبل ذلك
التاريخ، إنما ينتظرونه لقياس حصص الدول الراعية لهذه الحرب. من سيحكم سوريا؟
بوتين أم الخامنئي؟ وما هي حصة الشريك التركي؟ صحيح أنه انتظار دموي وغير أخلاقي،
لكنه التفسير الوحيد لما يجري اليوم في سوريا.
لكن السؤال لا يلبث يُلح فعلا. وجهة الجريمة تدفعه ليقفز أمام
وجوهنا. ربما علينا أن نتخيل بشار الأسد مثل صدام حسين في السنوات العشر الأخيرة
من حكمه. أي محاصر وضعيف ومهان، لكنه رئيس للجمهورية، ويجلس في قصره تماما كما
يجلس الرؤساء. يقتل فقراء بلده، ولا يقوى على مغادرة دمشق. هل هذا المصير يكفي
لكل هذه الدماء؟ هل فكر بشار الأسد في أن هذا سيكون مصيره بعد «النصر» وقرر أن هذا
المصير يستحق هذا الثمن؟
الأرجح أنه فعلها، وبهذا المعنى، فإن جريمته فاقت جريمة صدام، ذاك أن
الأخير وجد نفسه فجأة أمام هذا المصير، بينما كان لدى الأسد وقت وخيارات. وهما
يتساويان في حقيقة أنهما لا يتخيلان أنفسهما على قيد الحياة من دون قصريهما.
الأرجح أن بشار الأسد يعرف أن أي خروج من القصر سيكون خروجا إلى
القبر، وهو قرر أن يُرسل السوريين إلى القبر قبله. هذا الاستنتاج الوحيد الذي يمكن
لواحدنا أن يخلص إليه طالما أنه يدرك أن الرئيس على قناعة بأنه لن يكون بعد
«نصره» أكثر من صدام حسين في سنواته العشر الأخيرة.
وبهذا المعنى، فإن الرجل يرتكب جرائم لمصلحة غيره، ويتقاضى أثمانا ليست زهيدة فحسب، إنما مسمومة أيضا، فهو يدرك أن حسابات من يخوضون الحرب ويرتكبون الجريمة باسمه ستتعداه إذا ما حانت ساعة الحساب، وسيكون «دجاجة» صلح ما في مناسبة ليست بعيدة.
ومرة أخرى تلوح الجريمة على نحو مضاعف بصفتها خيار الرئيس الضعيف
والمنتهك. وحين تصبح الجريمة على هذا القدر من السهولة، فهذا يعني أن الخلل لا
يقتصر على أن هناك رئيسا قرر أن يُقدم عليها، وأن له حلفاء ارتكبوها باسمه، إنما
الخلل الفعلي يكمن في أن جريمة من هذا النوع ما زالت ممكنة، وهو خلل لا تقتصر
المسؤولية عنه على المرتكبين المباشرين. فكل متفرج مشارك، وجميعنا يتفرج.
الحياة اللندنية