الأرجح أن عملية إطاحة رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي قد نجحت.
طهران أنجزت المهمة وواشنطن خذلته، على رغم أن الرجل دفع ثمن موقفه الذي أعلن فيه
حياد حكومته حيال العقوبات التي باشرت الولايات المتحدة فرضها على إيران.
انكفاء
واشنطن صار جزءا من الحسابات السياسية للجماعات العراقية. أقرب الأطراف إليها باشر
ابتعادا عنها. الأكراد، وهم حلفاء واشنطن التاريخيون في العراق، صاروا اليوم في
طهران. السنة العرب، خصوم طهران المفترضون، وجدوا أنفسهم في العراء، فمدوا خيوطا
مع الخصم المذهبي والسياسي. وها هو حيدر العبادي ينضم إلى كوكبة «المخذولين»،
والأرجح أن يباشر مراجعة يخلص فيها إلى أن خياره لجهة «الانسجام» مع واشنطن كان
خاطئا، وأن يبدأ محاولات ترميم العلاقة مع طهران. والأرجح أيضا أن تصبح حال
العبادي مشابهة لحال إياد علاوي عندما عُرض على المرجعية في النجف احتمال توليه
رئاسة الحكومة مرة ثانية، فردت: «رئاسة الحكومة للشيعة لا لشيعي».
معظم
السياسيين العراقيين شعروا هذه الأيام بضآلة التأثير الأميركي في مجريات المشهد
العراقي، وبضخامة النفوذ الإيراني وتوسعه. وهذه الحقيقة تفرض على هؤلاء السياسيين،
أو على من لم يباشر منهم سعيا لخطب ود الجنرال قاسم سليماني، أن يُسرع في الإقدام
على هذه الخطوة.
لكن،
ما يحير فعلا في هذا المشهد هو أن واشنطن لا تريد من العراق أن يكون بيد طهران،
ولا تريده جسرا للالتفاف على عقوباتها على الجمهورية الإسلامية. لا تريد ذلك،
لكنها لا تريد نجدة من يمكن أن ينسجم معها فيه. تماما كما كانت حالها مع الأكراد
حين خذلتهم في كركوك، ومع السنة العرب حين لم تحرك ساكنا حيال إحلال «الحشد
الشعبي» محل «داعش» في مدنهم.
وبهذا
المعنى فان واشنطن تطلب من العراقيين أن لا يكونوا ممرا للالتفاف على عقوباتها على
طهران، وتتيح للأخيرة فرصة أن تطيح من يستجيب ما تطلبه.
ما
جرى بين العبادي وواشنطن، إذا ما نُظر إليه من مسافة تتيح إعادة تأليفه، مذهل فعلا.
واشنطن فاوضت على رأس من يُفترض بأنه ليس خصمها، وهي قبلت على ما يبدو بغيره رئيسا
للحكومة. العبادي كان في نقطة الوسط بينها وبين طهران. الأسماء البديلة المتداولة
كلها أقرب إلى طهران، مع تفاوت في مستويي القرب والبعد. فالح الفياض أقرب إلى
طهران من عادل عبد المهدي، لكن الرجلين أقرب إليها من حيدر العبادي.
طهران
كسبت الجولة على ما يبدو. واشنطن «دونالد ترامب» لا تشعر بالهزيمة، وهذه معادلة
مذهلة، فهي تؤشر إلى عدم اكتراث الدولة الأقوى في العالم إلى حال الضعفاء من
أمثالنا. وواشنطن هذه غير معنية بالتأسيس لصدقية توفر لها قدرة على تسويق
خياراتها. نحن هنا فعلا حيال إدارة عمياء. إدارة لا ترى ضرورة لوجود من يتعامل
بإيجابية حيال خياراتها. واشنطن لا تريد من العراق أن يكون حديقة خلفية لإيران،
لكنها من جهة أخرى لا تُقدم على أي خطوة لمساعدة العراق في هذه المهمة. على بغداد
أن تلبي الطلب الأميركي لأن أميركا أقوى دولة في العالم، ولأنها، أي بغداد، تخاف
من غضب هذه الدولة.
لكن،
يمكن الذهاب أكثر في هذه الدوامة الرهيبة. واشنطن تساعد في بناء نفوذ إيراني في
العراق بهدف شيطنته. سيعيش العراق سنواته الأربع المقبلة في ظل حكومة تطلب منها
طهران تصريف مصالحها وتطلب منها واشنطن أن لا تلبي هذا الطلب. رئيس الحكومة العتيد
سيعيش بين هذين الطلبين أسوأ أيام حياته، فزمن المشي الحذر بين الخيارين، والذي
اعتمدته حكومة العبادي، قد ولى، وكلا العدوين يطلب اليوم من العراقيين أن يحسموا
خيارهم «إما معنا أو ضدنا»، والفارق أن طهران تعمل لتأليف مشهد عراقي يساعدها في
المرحلة الصعبة التي تنتظرها، في وقت لا تبدو فيه واشنطن مكترثة. وفي انعدام
اكتراثها قدر من العجرفة التي تدفع المرء إلى الخوف فعلا. فالعراق يعيش اليوم
تماما بين شراهة طهران وعجرفة واشنطن.
عن
صحيفة الحياة اللندنية