كتاب عربي 21

في حب مراكش والماركشية (1)

1300x600
كنت قد عاهدت نفسي، على مدى سنوات طوال، على عدم زيارة أي عاصمة عربية، تفاديا للنزول في مطاراتها، حيث يتفنن رجال الجمارك والجوازات في إذلال الناس، وزرت الولايات المتحدة مرة واحدة، وأخيرة – بإذن الله – في عام 2009، وطلبوا مني الجلوس في قاعة مخصصة للإيرانيين والسوريين والسودانيين، وأتوا بكلب، لا أزال أتذكر ملامحه بعنقود الذُّرة الصفراء (الشامية) ذي الشعيرات البرتقالية التي تعلو رأسه.

طاف ذلك الكلب ابن الكلب يشمّ حقائبنا، فقلنا "ماشي"، ولكنه مر بقربي، ثم اقترب بأنفه الضخم من عنقي، فأصدر أمعائي أصواتا لا تبشر بالخير، خاصة، وقد كنت أصلا متوجسا من زيارة الولايات المتحدة، لأنني من مواليد أيلول/ سبتمبر، وهو الشهر الذي هزت فيه تفجيرات القاعدة برجي مركز التجارة العالمي، قاعدة الأمن الأمريكي في عام 2001، ولو لم ينصرف الكلب عني ليتحرش بآخرين، لاعترفت بأنني من خلايا القاعدة (النكات عن كسل السودانيين، تجعلني فقط من الخلايا النائمة)

ثم أخضعني الأمريكان لتفتيش، لا يجوز سوى لاختصاصي في المسالك البولية إجراءه على شخص، وفقط إذا اشتبه في أنه يعاني من علة في البروستاتا، ولا يجوز لشخص يتمتع بذرّة من الكرامة، أن يزور بلدا يحسب القائمون على أمور أمْنِه، أن مكمن الخطر في مواطني دول محور الشر، هي مواطن العفة في أجسادهم.

ويشهد الله أنني كنت أسعد الناس بلحس كلامي عن عدم زيارة أي بلد عربي، عندما حللت، قبل عشرة أيام، مع عائلتي الصغيرة في المملكة المغربية، التي قال عنها العديد من الأصدقاء إنها "استثنائية".

نزلنا أولا في كازابلانكا، ولم أجد فيها ملمحاً لتلك الاستثنائية، فقد وجدتها مدينة ضخمة وفخمة، ولا تختلف كثيرا عن كبريات المدن الأوروبية، وبعد ليلة واحدة فيها شددنا الرحال إلى مراكش النخيل (هكذا يسمونها لكثرة أشجار النخيل فيها، ولكن المدينة تجلب التمور طيبة المذاق من أنحاء أخرى في المملكة)، وبعدها لمست الاستثنائية أينما حللت في المغرب

بعد أن ابتعدنا قليلا عن كازابلانكا، وجدت نفسي أهتف "حسن الحضارة مجلوب بتطرية/ وفي البداوة حسن غير مجلوب"، فالريف المغربي "خرافي". تندفع السيارة صوب مراكش، وتحس بأنك درويش في حالة جذب صوفي: يا الله على كل هذا الجمال والبهاء، على امتداد البصر، دون أن يعترضه مبنى شاهق.

(عندما زار الشهيد غسان كنفاني الخرطوم، سعى المسؤولون لإعطائه انطباعا بأن مدينتهم "راقية"، وطافوا به الحي السكني للطبقة الغنية، حيث البنايات متعددة الطبقات، تقابلها بيوت قصيرة القامات للفقراء، فقال لهم كنفاني عنها: إنها هندسة تفتقر إلى المروءة وتتطفل على خصوصيات الآخرين).

تتهادى السيارة لقرابة الساعات الثلاث على بساط أخضر، يحكي بسالة وكفاح الإنسان المغربي، في تطويع الطبيعة واستغلال الموارد الطبيعية، ويثير نقي الهواء في النفس هوى المكان، فتدرك لماذا اختار الشاعر السوداني، عاشق أفريقيا، محمد الفيتوري المغرب مستقرا، حتى رحل عن الدنيا، وهو القائل في حق المحبوب:

في حضرة من أهوى، عبثت بي الأشواق

حدقت بلا وجه، ورقصت بلا ساق

وزحمت براياتي وطبولي الآفاق

عشقي يفني عشقي، وفنائي استغراق

مملوكك، لكني سلطان العشاق

مراكش تتميز بـ"الماركشية"، التي تختلف عن الماركسية، في كونها حمراء فقط لأن ذلك لون ترابها وميسم المباني فيها، ومن مرور عابر فيها تلمس أنها مدينة ذات شخصية وحيثية، خطط شوارعها وميادينها فنان حاذق فكل شيء فيها واسع ورحب، وفيها تتصالح الطبيعة الربانية مع التخطيط العمراني العصري، والعجب العجاب أن تراب مراكش الأحمر شديد الخصوبة، ولهذا – ربما – قرر أهل المدينة تكريم ذلك التراب بأن جعلوا اللون الأحمر ميسما لجميع المباني فيها.

في عموم مدن المغرب، تكتشف أن هناك فنا معماريا خاصا بالبلاد، ولا أتكلم هنا عن مدينة مثل فاس، تحتضن تاريخ الممالك الإسلامية المتعاقبة على المنطقة بكل أصالته، بل وإذا نظرت – مثلا- إلى تصميم مآذن المساجد في عموم المغرب، يلفت انتباهك أنها رباعية الأضلاع، بعكس مآذن مساجد الدول الأخرى ذات الاستدارة الكاملة، وحتى الفنادق التي تتبع لسلاسل عالمية، معمارها ذو طابع مغربي.

واقترح على من احترفوا البكاء على أطلال الأندلس، أن يكفكفوا دموعهم على إشبيلية وقرطبة وطليطلة، وأن يأتوا إلى مراكش التي تحتضن فن المعمار الأندلسي، وعلى كل حال فمن أرض المغرب انطلق من شادوا المُلْك في الأندلس.

(حتى منتصف القرن التاسع عشر كانت كلمة مُور (بضم الميم ومدّ الواو) تعني "مسلم"، في أوروبا، والمور هم المغاربة، ومنهم عطيل بطل مسرحية شكسبير التي تحمل اسمه "أوثيلو" بالإنجليزية Othello).

ولأن زيارة الأندلس متعذرة لأسباب تاريخية وموضوعية وقانونية، فإن قصر الباهية في مراكش، يقدم لك فن العمارة الأندلسية في كبسولة ضخمة الحجم وشديدة البهاء، فهذه التحفة الفنية التي صاغها حرفيون من مراكش وفاس وسلا وأزمور وصفرو، حتى اكتملت بنهاية القرن التاسع عشر، يقوم زخرف الجدران والسقوف فيها على الحروف العربية، وتحديدا الآيات القرآنية وأسماء ذي الجلالة، على موازييك/ فسيفساء تبهر العقل قبل العين.

ويحق لمهندسي المعمار المعاصرين في المغرب، أن يفخروا بأنهم حافظوا على إرث الأسلاف، في جميع المدن التي شاركت في صنع التاريخ الإسلامي في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا وحوض البحر المتوسط.

هذه كلمات حب أبذلها لوجه الله والحقيقة، ولابد لي من التأكيد على ذلك، كي أنفي عن نفسي شبهة الارتزاق بتعداد مفاتن مراكش، والله يشهد أنني لا أعرف من المغاربة سوى سبعة زملاء، يعملون معي في شبكة الجزيرة الإعلامية، وأدركت بعد زيارة وطنهم لماذا هم ذوو "أرواح" جميلة ونبيلة.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع