بالرغم من بساطة اللغة المستخدمة بكتابتها، وعمومية الأفكار التي تحتويها ورقة «استراتيجية الأمن القومي الأمريكي»، إلا أنها تعبّر عن الخطوط العريضة للسياسة الأميركية اتجاه مجموعة من التهديدات الأمنية والمخاطر والتحديات الاستراتيجية في مجالات عديدة، كالاقتصاد والتعليم والصحة وغيرها.
يكتب تلك الوثيقة مجموعة من الرسميين من كل القطاعات المشمولة بالدراسة، بالإضافة إلى مستشارين من مراكز الأبحاث الأمريكية.
تكمن أهميتها أمريكيا بأنها تحدد ملامح سياسة الرئيس الأمريكي في بداية ولايته.
أما أهميتها بالنسبة لغير الأمريكية، سواء كانوا دولا أو باحثين ومهتمين بالشأن السياسي، فأما الدول ومن خلال قراءة الاستراتيجية الأمريكية، فإنها تحاول توقع ما ستكون عليه السياسة الخارجية الأمريكية، وبالتالي تعمل على ترتيب أوراقها للتأقلم معها.
أما الباحثون والمهتمون بالسياسة والعلاقات الدولية، فمن خلالها يمكنهم التعرف على طبيعة السياسة الدولية المتوقعة في المستقبل القريب، والأهم من ذلك هو الاطلاع على ما هي المخاطر والتحديات الأمنية المتوقع أن يكون لها الأولوية.
منذ عهد الرئيس الأمريكي بوش الأب، وبعد الرئيس الأمريكي الديمقراطي بيل كلينتون، ارتكزت الاستراتيجية الأمريكية على ترسيخ ما يُسمى بـ «النظام العالمي الجديد»، وبتأكيد الهيمنة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، إلا أن الولايات المتحدة لم تتفرد بالعالم، فكلاهما قام بالتعاون الدولي عبر إشراك الأمم المتحدة في حل النزاعات الدولية، مثال الغزو العراقي للكويت، وتدخّل الولايات المتحدة عن طريق الناتو في الأزمة اليوغوسلافية.
ربما الاختلاف الوحيد بين استراتيجية بوش الأب وبيل كلينتون هو استخدام الأول للقوة الصلبة (العسكرية)، بينما الآخر استخدم القوة الناعمة (الاقتصادية والثقافية) تحت شعار العولمة.
كل ما سبق من السياسات الاستراتيجية يرتكز على التعامل مع «التهديدات الأمنية التقليدية»، التي مصدرها الدول بشكل أساسي، سواء كانت تلك الدول عالمية (عظمى) أو إقليمية (متوسطة)، ولم تهتم بالتهديدات غير التقليدية كالإرهاب.
بينما الحال تغير بعد أشهر من ولاية الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، وبالتحديد بعد أحداث 11سبتمبر 2001 بإسقاط الطائرات على مركز التجارة الدولي بمنهاتن نيويورك وكذلك مبنى البنتاجون، حيث العمل الإرهابي الكبير الذي أعلنت القاعدة مسؤوليتها عنه.
عندها تبلورت استراتيجية أمنية جديدة، تمزج بين التهديدات الأمنية التقليدية الناتجة عن الدول والتهديدات الأمنية غير التقليدية، ومصدرها الجماعات الإرهابية العابرة الدول كتنظيم القاعدة الإرهابي.
فتصدّر قائمة التهديدات باستراتيجية الرئيس بوش الابن، تنظيم القاعدة والدول الحاضنة له كأفغانستان، بالإضافة للدول المارقة (كوريا الشمالية - إيران - العراق). لذلك، استخدم القوة الصلبة للقيام باحتلال أفغانستان والعراق، والقوة الناعمة بمحاصرة إيران، وبدرجة أقل كوريا الشمالية.
وفي عهد الرئيس أوباما، وبالرغم من الإرث الكبير من التهديدات الإرهابية؛ «داعش» في العراق، وبالإضافة إلى «طالبان» في أفغانستان.
فإنها لم تتصدر قائمة الأولويات في استراتيجيته الأمنية، وفضّل الخروج سريعا من المستنقع العراقي والأفغانستاني، ومحاربة الإرهاب باستخدام تحالفات دولية. وبدأت نجاحاته في العراق وانحصار خطر «داعش» قبل أن تنتهي ولايته، وكذلك تعامل مع الخطر الإيراني بالتوصل إلى الاتفاقية الإطارية الشاملة مع إيران (اتفاقية النووي الإيراني).
وكانت التهديدات التقليدية -كالصين وروسيا- تتصدر أولياته، ولذلك انتهج أوباما سياسة إعادة التوازن، والتركيز على منطقة شرق آسيا والباسيفيكي وقواه الآسيوية الصاعدة، بإقامة علاقات أمنية مع العديد من دول شرق آسيا من الفلبين إلى أستراليا، والقصد هو محاصرة الصين بها.
وكانت روسيا تقع بالاهتمام بعد الصين، ولكن اكتفت استراتيجية أوباما بالهجوم السياسي العنيف فقط دون اتخاذ إجراءات شديدة.
وأخيرا، نأتي للرئيس الأمريكي الحالي المثير للجدل دونالد ترامب ووثيقته للأمن القومي الأمريكي، الصادرة بتاريخ 18 ديسمبر 2017، حيث انصب جل اهتمامه فيها على التهديدات التقليدية، حيث تصدّرت مخاطر الصين وروسيا، وبدرجة أقل كوريا الشمالية وإيران، على مخاطر الإرهاب والجماعات الإجرامية العابرة للحدود ومخاطر الأمن السيبراني، التي أتت بآخر القائمة؛ فالترتيب هنا ليس عشوائيا، بل بحسب أولوية القضايا.
وهي بالتأكيد تشير لعودة الصراعات الدولية الكبرى في النظام الدولي، بخلاف الحقبة الماضية ذات الصراعات المحدودة ضد الإرهاب وشبكاته.
ختاما، يُتوقع بعد انحصار خطر «داعش» أن تكتفي الولايات المتحدة باستخدام حلفائها لتنفيذ سياستها، ولن تتورط عسكريا، وستركز على مستوى النظام الدولي بشكل رئيسي والقوى المنافسة لها فيه، كالصين، وروسيا، وستعيد ترتيب تحالفاتها مع أوروبا، وستهتم بالقارة الأمريكية ومجابهة الدول المارقة فيها على حد قول الرئيس ترامب.
العرب القطرية