كتاب عربي 21

حول مسألتي التجديد والعقل في الشريعة (1/2)

1300x600

(1)
مسألتا التجديد في الفقه الإسلامي وموضع العقل منه؛ تشغلان حيّزا في الفضاء الثقافي للأمة الإسلامية بتعدد ثقافاتها، ويتناولها الجادّ والعابث. والعبث فيهما أذاع أمريْن حتى صارا من أساسيات النقاش السائر إلى الجدل، أحدهما أن فهم الشريعة ليس حكرا على أحد، ويحق للمسلم أن ينظر في كتاب الله ليعرف مراد ربه منه ويعبدَه على الصورة التي فهمها.. وإن كان صحيحا أن فهم الشريعة ليس حكرا على أحد، لكنه ليس كلأً لكل أحد، فتفسير أي نص (شرعي أو وضعي) يحتاج للمتخصص الذي يملك أدوات ومَلَكَة فهم النص. ولا استغناء لأحدهما عن الآخر، إذ لا تُغني الملكة العقلية عن أدوات التعامل مع النص مما سيأتي بيان بعضها، كما أنه لا يستقيم فهم دقائق النص لمن مَلَكَ الأدوات إن افتقر إلى الذكاء، وإذا كان النص الوضعي يُتشَدّد في اختيار واضعيه ومفسريه، لتعلّقه بحريات وأموال وأرواح الخلائق. فالنص الشرعي يتعلّق بحَيَوَاتِ الناس في الدار الآخرة، وما أجلّه من تعلق.

وثانيهما؛ اعتبار تاريخية الحكم الشرعي في بعض المسائل، حتى وإن كانت داخلة في مفهوم الإجماع. وينبغي التمييز بين القائل بتاريخية الحُكم بقصد أنه كان ملائما لهذه الجماعة أو الفئة في زمن ما - بَعُدَ أو قَرُب من زمن النبوة - وبعض المباحث الفقهية تحتمل ذلك المعنى، وبين القائل بتاريخية النص الشرعي نفسه، ويعني بذلك أن النص نتاج بيئته السياسية والاجتماعية، لتنهدم - بهذا المعنى - صَلُوحيّة النص لكل زمان ومكان، وينفتح بالتلازم باب الطعن في وجود الإله وأنه حكيم في تصرّفه في خلقه. إذ لو كان عاجزا - حاشاه تعالى - عن تشريع ما ينصلح به حال الجماعة البشرية، تشريعا دائما وأبديا يلائم كل الأزمان، لدلّ ذلك على غير ما يعتقده المؤمن في ربه من العلم والحكمة، وجلّ ربنا عن كل ذلك.

(2)
من هنا تبدو جلالة مسألة التجديد، إذ هي مسألة تتصل بحلقة مفصليّة في وجدان المؤمن، وما يعتقده عن دينه وربّه. وتلك الجلالة تجعل مثلي يتهيّب الخوض فيها، إذ المسألة تحتاج لمُكْنة في علوم الشريعة وآلاتها، والفقير - على قلة بضاعته وسوء سريرته - لا يتعرض لها ولا لكلام رسول الله ولا لأحكام الشريعة من جهة استيفائه لأدوات النظر والاجتهاد، بل من جهة المباحثة مع أهل الاختصاص، لمحاولة وضع قواعد وأسس ضابطة لتلك المسألة.

 

مسألة التجديد هي مسألة تتصل بحلقة مفصليّة في وجدان المؤمن، وما يعتقده عن دينه وربّه.. وتحتاج لمُكْنة في علوم الشريعة وآلاتها


ينبغي لعملية التجديد أن تكون مُنْهَضِمَةً مع السياق العام لعملية استنباط الأحكام الشرعية، كالعلم باللغة وآيات الأحكام وأحاديثها والخاص والعام والقطعي والظني والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك مما هو مبثوث في صفحات علم أصول الفقه. أما إذا كانت العملية خارجة عن المُستقى من طرق الاستنباط، فتلك آية ضعف المناعة أمام هجمات التغريب الثقافية، والقيد هنا متعلق بطرق الاستنباط لا الناتج من عملية الاستنباط - أي الحكم الشرعي - إذ الاجتهاد لا قيد عليه لمن ملك ناصيته وأدواته.

ومثال ما ذكرنا عن ضعف المناعة، دعاوى استبعاد نصوص تثار حولها مناقشات - وربما تأتي مناسبة أخرى للحديث عن بعضها - كالتسوية في الإرث بين الجنسين ومسألة الحدود، وأخصّها حديث الرجم.. فركن استبعاد عقوبة الرجم عند بعض رافضيها علَّة عقلية؛ كأن يُقال إن الإسلام دين الرحمة فلا يأتي بتشريع كهذا، أو غير ذلك مما يُقال حول هذا النص، فعامل الاستبعاد هنا عقلي عند بعض هؤلاء الذين يقرّون بصلوحية التشريع الإسلامي، لكنهم لا ينظرون في النص من حيث وُرُودِه ودلالته.

(3)

 

إذا سلمنا بمكانة العقل في عملية الاستنباط، واعتبار المَلَكَة ركنا غير مكتسب بخلاف ركن علوم الشريعة التي تُكتسَب، إلا إنه لا يقوم مقام التشريع ولا يستقل بالحكم على النص، بل يُحكم على العقل بالنص

نحن إذا سلمنا بمكانة العقل في عملية الاستنباط، واعتبار المَلَكَة ركنا غير مكتسب بخلاف ركن علوم الشريعة التي تُكتسَب، إلا إنه لا يقوم مقام التشريع ولا يستقل بالحكم على النص، بل يُحكم على العقل بالنص، ويُحكم على النص بالاستبعاد إذا انتفت طرائق الاستدلال على صحته. وقد ذكر الإمام الشوكاني في معرض حديثه عن مسألة التحسين والتقبيح العقليين للأفعال؛ كلاما نفيسا يصلح للاستدلال به في هذا المقام، فذكر في محصلة رأيه بعد عرض أقوال الفريقين: "وإنكار مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنا أو قبيحا مكابرة ومباهتة، وأما إدراكه لكون ذلك الفعل الحسن متعلقا للثواب، وكون ذلك الفعل القبيح متعلقا للعقاب فغير مُسَلَّم، وغاية ما تدركه العقول أن هذا الفعل الحسن يُمدح فاعله، وهذا الفعل القبيح يُذمّ فاعله، ولا تلازم بين هذا وبين كونه متعلقا للثواب والعقاب".

 

العقل قد يُدرك التشريع في مسألة أو مجافاتها له، لكن لا يُحكم على المسألة بأنها شرع من عند الله أو مقابل ذلك، إلا بورود النص من عند المُشرّع.


وعدم التلازم بين إدراك العقل لحُسْن أو قبح فعلٍ ما وارتباط هذا الإدراك بثواب أو عقاب، يماثل الحديث في مسألتنا من جهة أن العقل قد يُدرك التشريع في مسألة أو مجافاتها له، لكن لا يُحكم على المسألة بأنها شرع من عند الله أو مقابل ذلك، إلا بورود النص من عند المُشرّع.

(4)

 

الحاجة للتجديد ملحّة في ظل خطاب تشكيكي في الموروث، لكنه تجديد منضبط بقواعد العلوم

والمراد بيانه في تلك المسألة - كما ذكر أستاذنا البِشْري في كتابه "التجدد الحضاري" - أن "الفكر الإسلامي الموروث في بلادنا لا يقوم منافيا للعقلانية؛ لأنه اعتمد في أساسه على نص، فصار إثبات النص واستخراج الدلالات منه يعتمد على أدوات ومناهج عقلية، وصيغت هذه المناهج في علم مصطلح الحديث الذي يتضمن منهج تحقيق النصوص والروايات لإثبات قيامها، وفي علم أصول الفقه وهو ما سمي علم "منطق المسلمين" وذلك لبيان أساليب استخراج الدلالات من العبارات المستخدَمة، ويستحيل فصل الفكر الإسلامي عن هذين العِلْميْن، وهما عِلْمان يتضمنان مناهج عقلية".


وما ينبغي إدراكه كذلك أن هذا القيد - ربط عملية التجديد بالاتساق مع طرق الاستنباط العلمية - غير مقصود به تحجير باب الاجتهاد الواسع، بل القيد ضبط للمسألة لمن قدر على الولوج من باب الاجتهاد، ثم هو لا يخاطب عملية التجديد في الفقه، بل يضبطها كذلك، إذ الحاجة للتجديد ملحّة في ظل خطاب تشكيكي في الموروث، لكنه تجديد منضبط بقواعد العلوم.. إذ لا يقدر أحد على التجديد في أي علم طبيعي - كالفيزياء مثلا - بخرق قواعده الثابتة دون مستند علمي متين وراسخ يقابل رسوخ القاعدة السابقة، وكذلك علوم الشريعة لا يُعمل المجدد نظره فيها إلا برسوخ وانضباط علميين.