كم بودي أن أكتب عن تونس الضاحكة الفرحة كصبية جميلة تتعلم الحب، لكني لا أفلح في خداع وعيي، ولا أجد القدرة على الكذب على أصدقائي القلائل، الذين يطلعون على ما أكتب، وينتظرون الأمل.. وهل أمل ينبى على أكاذيب عارية؟
أسبوع الترشح إلى كأس العالم لكرة القدم في روسيا السنة القادمة هو أسبوع الفيضان ببعض قرى الجنوب، التي جرف السيل بعض أبنائها، وأسبوع مهرجان السينما الذي يذكر ببلد له تقاليد في الثقافة الكونية. لكنه الأسبوع الذي تتوج فيه أفلام التعري "تانيت"، فتنكشف رؤية البلد للثقافة المنبتة عن حاجات الناس المنسيين في طمي الفيضانات والفشل الدراسي. من أين أبدأ وصف الحزن لكي أخفى الدموع، ويرى الناس بلدي ضاحكا كصبية تتعلم الحب؟
بلدي مشروخ يخفي شرخه المؤلم
ستون عاما من الدولة الوطنية أو يزيد.. نحتفل كل عام بعيد الاستقلال، ونمجد الدولة الوطنية راية خفاقة، ونشيدا كل صباح في المدارس، وجسورا تنهار إذا نزل المطر، فينقسم البلد نصفين، ويحمل السيل بعضنا إلى البحر، فلا نعثر على الجثث. وفيما الجنازات تكبر الله في القرى المعزولة، يقول بعض أبناء الحاضرة إن موتنا من جهلنا، ونحن نستحقه.. فأعيينا ليست زرقاء، وبشرتنا ليست بيضاء.. نستحق الموت إذن؛ لتحتفل العاصمة.. بعض العاصمة.. ففي العاصمة أيضا يغرق بعض الناس في وحل الطريق إذا نزل المطر.
الطرقات في بلدي قليلة وهشة ومغشوشة في أسسها؛ لا تصمد تحت مطر قليل. ليس ما جرى في بعض القرى الجنوب ليلة الحادي عشر من الشهر الحادي عشر استثنائيا (يا للسخرية.. هذا شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، شهر بن علي الذي حكم ربع قرن من الطرقات المغشوشة).. كل بلدان الأرض تدهمها السيول والأمطار الفجائية، فلا تنهار جسورها ولا تتقطع إلى أجزاء. إلا بلدنا، كأن تصنيفنا في العالم الثالث يسعد الحكومات التي تجد في ذلك مبررا للغش في الطرقات. ليلة الحادي عشر قسمت تونس نصفين، وعزلت حوالي مليوني إنسان من ساكنيها عن البقية، وبات الناس في السيارات وفي العراء فوق سطوح المنازل؛ خوفا من الغرق والانجراف إلى البحر، لأن دولتنا بنت طيلة ستين عاما طريقا واحد تربط شمالها بجنوبها.
بات بعضنا يسخر سخرية سوداء تعبيرا عن سعادة مقلوبة؛ أن لم يضربنا زلزال العراق، ولا قام عدو بإنزال عسكري على الطريق الوحيدة فيقطع البلد ويحتله في ليلة ممطرة! سخرية باكية قابلها بعضنا بشماتة، فالموتى يستحقون الموت لأنهم كالحو البشرة والقلوب، فلا يسمعون توصيات الحكومة إذا رأت سحابة عابرة.
كانت الحكومة ليلة الحادي عشر تحتفل بانتصارها الكروي الباهت.. لقد نافس فريق الحكومة الذي يُدفع له ثمن الطرقات المكسورة؛ فريقا بلا نشاط رياضي في زمن الحرب، ولم تسجل له أهداف.. ورقص الجمهور المغيب على تعادل في طعم الهزيمة، واستعد اللاعبون والمحيطون بالمعلب لقبض الأثمان المجزية.. أثمان قادرة على معالجة هشاشة الطرقات التي كسرها السيل الصغير. كانت الحالة مطابقة لمثل شعبي قديم عن رجل يسير من فقره عاري القفا ويلبس خاتما في أصبعه! كان خاتم الكرة كافيا ليضل الجمهور السبيل إلى قضاياه الحقيقة التي دفع مئات الشهداء لعلاجها بوساطة حكومة تعرف الواجب. كانت الحكومة تعرف فقط أن تقول للجمهور: ارقص فانت في بلد الفرح الدائم على أنقاض مستقبلك؛ الذي لن تناله إلا خانعا خاضعا مكسورا الهمة. وأي مستقبل لشعب بلا همة ولا روح؟ لقد كان للحكومة إعلام متمرس في تضليل الجمهور، إلى حد إقناعه بأن ماء البحر حلو. ولا يملك الجمهور إلا أن يرقص طربا، فقد فاز في كرة القدم بصفرين كبيرين. وقال قائل التلفزات: سنذهب إلى روسيا ونعانق شاربوفا (لاعبة التنس الروسية الجميلة التي ستكون في انتظار الجمهور الغبي بمطار موسكو).
صدمة السقيطة
السقيطة عندنا هي الشاة المسلوخة، ونطلق اللفظ على المرأة إذا سقطت وباعت جسدها، ونعمم على كل امرأة لا تحظى بالاحترام..
صرفت الدولة 600 ألف دينار من أموال الثقافة على تمويل فيلم وثائقي عن فتاة من جماعة "فيمن" العالمية، دأبت على الاحتجاج بتعرية جسدها في قضايا من قبيل حق الممارسة الجنسية المثلية، وحق الكلاب السائبة في الحياة. وكانت نجمة الإعلام زمن الترويكا، واتخذت أيقونة في مقاومة الإرهاب بالتعري. وقد خلناها اختفت عن شاشات الرادار، حتى خرج علينا الوثائقي عن تجربتها النضالية، والمنجز بالمال العام. فتلقى "تانيت" من المهرجان.
حال الثقافة من حال البنية التحتية من حال الرياضة، ومن حال مقاومة الفساد؛ غطاء الحكومة الجديد الذي تدثرت به منذ أول الصيف ولم تقبض على فاسد واحد ممن يرى الشعب المسكين فسادهم وعبثهم بمال الدولة ومصيرها. حكومة في واد وشعب في واد آخر.. لا ثقافتها التي تمولها بماله العام هي ثقافته، ولا إنفاقها يعود عليه بفائدة مما ينتظر منذ قام بثورته، وصبر على انتقال ديمقراطي أفرغ من مضامينه؛ فتحول إلى سمسرة سياسية مفضوحة وبغيضة.
لقد بكى تونسيون كثر ليلة الحادي عشر؛ حزنا على أرواح جرفها السيل، وعلى أرزاق طمرت تحت الطمي، وعلى زيتون قلع من منابته التاريخية. وبكى آخرون على غربة عميقة يرونها في جمهور الكرة المخدر بوهم انتصار، وعلى إعلام يحرف وعي الجمهور فـ"يدوخه". وحدها الحكومة كانت تضحك.. لقد تدبرت ملهاة مؤقتة، فخفت قبضة الفيسبوك عن خناقها لساعات. ولكن ما جدوى نضال المواقع الاجتماعية مهما احتدت الأصوات؟
حكومة تحتقر شعبها
لا شيء يدل على أن هناك ذرة تقدير واحترام لمن مات أو قتل في سبيل حركة تغيير حقيقية وعميقة.. وليس هناك أدنى اعتبار للباقين بعد على قيد الحياة؛ وينتظرون. طريقة إنفاق الحكومة للمال العام تدل على أنها لا تقدر شعبها، وإن تحدث في المواقع الاجتماعية ورفع الصوت بالنقد والانتقاد والاحتجاج.
الاحتقار بين شعب مفقر في مواجهة حكومة تنفق على سينما تافهة مغتربة، رغم الأدلة التي يكشفها مطر عابر. شباب يرى أمواله المكنوزة تنفق على غير مصلحته، فيهرب عجزا ويأسا ويغرق في البحر. كل حركة احتجاج تواجه بالعصا الغليظة، تحت أنظار النخب الحزبية المتواطئة ضد الشعب.. حكومة بلا مشاريع غير رفع الضرائب على الموظفين.. لا ثروات تُخلق ولا أفكارا بناءة تقدم للإنجاز.. ولا إصلاحا قانونيا يجعل الدستور يطبق على الأرض.
وحدها نقابات الشرطة تفرض لعبتها على النظام وتغنم. وحتى يحين لها موعد استرجاع قدرتها الكاملة على محق الشعب الذي انتفض، ستظل تونس تبكي موتاها بالجوع والفقر والسيول. أما الضحك، فمصطنع في التلفزة.
سلاح التلميذ للديكتاتور اللذيذ.. خاتم آل عبد العزيز
نهاية الدستور التونسي أم بدايته الفعلية؟