قبل نحو أسبوعين، نشرت هذه الصحيفة تقريرا قصيرا عن المرتبة المزرية التي تشغلها مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي، على ذمة "كيو أس"، وهي المؤسسة التي تعمل مع أخريات على تقييم الجامعات في مختلف دول العالم، وتحظى بصدقية عالية لأنها تحتكم الى معايير ثابتة.
وتلك المعايير كما جاء في تقرير "عربي21" هي: السمعة الأكاديمية، سمعة صاحب العمل، نسبة الأساتذة إلى الطلاب، نسبة تأثير الجامعة في شبكة الإنترنت، عدد الأوراق البحثية لكل أستاذ، نسبة الاستشهادات في كل ورقة بحثية، نسبة حاملي الدكتوراه في الهيئة التعليمية، نسبة الأساتذة الدوليين إلى كل هيئة التدريس، نسبة الطلاب الدوليين في الجسم الطلابي.
التقرير لم يأت على ذكر الجامعات العربية التي تحتكر المراتب بعد ال10.000، ربما أن ربنا أمرنا بالستر، وربما لأن الضرب في الميت حرام.
تكْمن العلة في التعليم الجامعي في الدول العربية، في المراحل الذي تسبقه، وتحديدا في المرحلة الثانوية، فقد ابتلى الله معظم الدول العربية بتصنيف سخيف وغبي للطلاب في المدارس الثانوية، إلى أدبي وعلمي، فلا يجوز لك إذا كنت متفوقا في الجغرافيا والتاريخ والفلسفة أن تجلس لامتحان الفيزياء أو الكيمياء، والمتفوق في الرياضيات والأحياء، محروم من التعامل مع العلوم النظرية/ الإنسانية، في المعركة الفاصلة لدخول الجامعات، ما يعني أن الأنظمة التعليمية، ترغم طالب القسم الأدبي على رفع شعار علمي علمك إذا ما سئل عن أقطاب المغناطيس أو الكهرباء.
أهم قرارين يتخذهما الشباب المعاصر في مسيرة الحياة هما: ماذا أدرس في الجامعة وبمن أتزوج؟ ولكن ومع السقوط العمودي للجامعات العربية صار البعض مطالبا باتخاذ قرار بشأن في أي جامعة يدرس.
وهؤلاء البعض هم "من استطاع اليها سبيلا"، أي من يملكون القدرات المادية للدراسة في جامعات أجنبية.
وإذا عدنا إلى المعايير أعلاه لتصنيف الجامعات يتضح لماذا ترسب جامعاتنا في التصنيف، وتقبع معظمها في ذيل القائمة عن جدارة واستحقاق، فليس عندنا بحث علمي، وبعض حملة الدرجات فوق الجامعية، الذين يعملون بالتدريس في الجامعات، كما ذوات الأربع التي تحمل أسفارا.
وفي بيئة كهذه، فإن الطالب العربي الجامعي ليس مطالبا بإعمال الفكر أو التنقيب عن المعارف في مظانها، بل يكفيه أن يشتري المذكرات التي يعدها ويبيعها "الدكتور".
وفي جميع المدن العربية الكبرى هناك "مكتبات" تبيع ملخصات المواد الجامعية التي أعدها أساتذة يعملون في جامعات تلك المدن، ويا ويل وظلام ليل الطالب الذي يأتي في امتحان مادة ما، بمعلومات لم ترد في تلك الملخصات، ومؤخرا تطورت تلك المكتبات وصارت تبيع "مشاريع التخرج".
ومن طريف ما يحدث في مجال العلوم الإنسانية أن الطالب الراغب -مثلا- في شراء مادة ماجستير جاهزة، تضمن له درجة جيد فما فوق ذلك، يذهب الى واحدة من تلك البقالات الأكاديمية فيجد عرضا بالصيغة التالية:
الطالب السوداني يقال له: عندنا بحث أردني/ تونسي ممكن نسودنه لك، ويقال للمصري: شوية تمصير والبحث ما يخرش ميّه، وللجزائري: الجزأرة للمادة تكفل لك اكسلانس، وهكذا يتم إعادة تدوير البحوث الأكاديمية عملا بمقولة "بارك الله فيمن نفع واستنفع"، التي صرنا نبرر بها تقديم وتسلُّم الرشا.
في حزيران/ يونيو من العام الماضي، اكتشفت وزارة التعليم العالي في سلطنة عمان خلال شهر واحد، أن أكثر من مئة موظف في أجهزة الدولة يحملون شهادات جامعية وفوق الجامعية مزورة، وأصدرت من ثم قرارا يلزم كل من أتى بدرجة عملية من خارج السلطنة -سواء كان يشغل وظيفة سلفا أو يسعى للحصول على وظيفة- أن يقدم شهاداته لهيئة في الوزارة مسؤولة عن معادلة الشهادات.
وفي أيلول/ سبتمبر الماضي تم اعتقال أكثر من 500 أستاذ جامعي في زامبيا، وتقديمهم للمحاكمات، بعد أن ثبت أنهم يحملون مؤهلات مضروبة، وإذا عرفنا أن هناك 15 جامعة حكومية و22 جامعة خاصة في ذلك البلد، فإن متوسط نصيب الجامعة الواحدة في زامبيا من الأساتذة الغشاشين 13 ونصف أستاذ.
وحتى مستر بين يعرف أن التعليم العالي في بلداننا "واطي" بفعل فاعل، فجميع الجامعات تخضع للرقابة من قبل جهة حكومية، والحكومات العربية -أو لنقل 99,05 منها- تخاف من أمرين: التعليم والإعلام، وترويض الإعلام سهل بالعين الحمراء أو الذهب الأصفر، ولكن ترويض مئات أو عشرات الآلاف من الطلاب، يتطلب صوغ مناهج للتعليم الجامعي "تطرح" من رصيد الطالب المعرفي، ومن ثم إعادة برمجة ما تبقى من عقله بعد مرحلة التعليم العام، بحيث يخرج من الجامعة ببغاء عقله في أذنيه.
ولهذا ليس من العسف -مع الأسف- وصف جامعاتنا بأنها "طارحة"، لأنها تخصم من الأدمغة ملكة البحث والنقد والتنقيب عن المعارف والوصول إلى استنتاجات.
ولعل من أسسوا المنظمة الإقليمية التي تضم جميع الدول العربية، كانوا موفقين بإطلاق اسم "جامعة" عليها، فكما أن مؤسسات التعليم العالي التي تحمل ذلك الاسم، مارست الطرح بدلا من الجمع، فإن الجامعة العربية، لم تجمع العرب على شيء سوى الجدل وقلة العمل، وصارت منبرا للتناقر والتناحر والتنافر، كما يليق بمنظمة من فئة "ألقاب مملكة في غير موضعها/ كالهرِّ يحكي انتفاخا صولة الأسد".