كان ذلك في شتاء 2005م في دار أخبار اليوم؛ لحضور ندوة مغلقة عن "الفتنة الطائفية"، كان الراحل الكبيرجمال الغيطانى قد دعا إليها في أخبار الأدب، وكان على رأس الحضور المستشار طارق البشري.. كنت أول مرة ألتقية. كان هناك أيضا الراحل د. ميلاد حنا، بنديته التاريخية لصديق طفولته نظير جيد روفائيل (غبطة البابا المتنيح شنودة الثالث)، وهو معروف بيساريته الطريفة، والتي عرفنا بعدها أنها كانت تخفي تحتها إيمانا قويا. وكان موجودا أيضا د. نبيل عبد الفتاح، الذي كان قريبا من دوائر الكنيسة القبطية وقتها وأ. سميرمرقس وهو رغم "طائفيته" العميقة، إلا أنه مهتم بأمر الجماعة الوطنية اهتماما صادقا، الحاصل أن صاحب "المسلمين والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"؛ تحدث يومها حتى أشبع اللفظ والمعنى، وغرفت أنا من إنائه - كما يقولون - وقلت بعده كلاما يشابه كلامه ويقترب منه، مما أهلني لأن أسير في صحبته من مبنى أخبار اليوم حتى ميدان التحرير، واضعا يده في ذراعي كصديقين حميمين، رغم أنه اللقاء الأول. وقامت بيننا صداقة ودودة تمنحك شرفا وفخرا، ومزيدا من الفهم للحياة والناس.. وصدق من قال: من قصد البحر استقل السواقيا.
وهو قد جرت من تحت قلمه أنهار مديدة؛ في كل ما يتعلق بـ"الجماعة الوطنية"، سواء ما يخص الحالة القبطية أو ما يخص فكرة "الدولة" كتنظيم إداري صلب لا علاقة له بشخص الحاكم، وقال في ذلك كلاما لا بد أن يذكر: "من معالم الاستبداد أن تنتقل الدولة من كونها تعبيرا عن جماعة وأداة للحكم بين الناس؛ إلى التمركز حول شخص الحاكم والتعبير عن مصالح نخبة ضيقة من بطانته، دونما اعتبار للناس ومصالح المواطنين. فلا يبقى ثمة وجود لقوى سياسية اجتماعية تتجاوز إرادة الدولة وهيمنتها، وهذا ما يسمى بشخصنة الدولة..".
حين قرأت هذا الكلام كتبت وقتها مقالا في جريدة العربي الناصري؛ بعنوان "صرخات طارق البشري". فقد كتب مقدمتين لكتابين من أهم الكتب التي تتناول تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة، الأول مقدمة كتاب الدكتور النابغة إبراهيم البيومي غانم عن "الفكر السياسي عند حسن البنا"، وهو في الأصل رسالته للماجستير، والثاني شهادة د.عبد المنعم أبو الفتوح عن الحركة الإسلامية المعاصرة؛ قال فيها: "إن الشخص والفكرة واللحظة التاريخية؛ هي ثلاثة عناصر تجعل من شهادة عبد المنعم أبو الفتوح على تأسيس الجماعات الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي واحدة من أهم الشهادات في تاريخ مصر المعاصرة".
لا خير في الدنيا إن لم تزر حبيبا ** ولم يفرح بزيارتك حبيب.. الأسبوع الماضي كنت في زيارته، ودارت بيننا - ومعنا الباحث الواعد أ. شريف أيمن - نقاشات راحت وجاءت في الفقه والفكر والسياسة والتاريخ والأدب والواقع الحاضر. شهد الرجل؛ وشارك في أحداث ثورة 25 يناير، بما يجعل من الحديث معه غوصا في الأعماق. قد يبدو لك أنه كان غائبا، لكنه في صميم المشهد. ذات مره حدثني عن الشعر الحديث والشعر العمودي حديثا واسعا تتوقعه من ناقد أدبي أو باحث في اللغة العربية، أما وأن تسمعه من قاض وفقيه دستورى ومفكر ومؤرخ؛ فذاك وجه الدهشة والعجب - كما يقولون - وسمّع لنا عن ظهر قلب قصيدة مشهورة لخليل مطران: شردوا أخيارها بحرا وبـرا ** واقتلوا أحرارها حرا فحـرا
يوم الأربعاء الماضي (1 تشرين الثاني/ نوفمبر) أتم الحكيم البشري 84 عاما - حفظه الله - ذاكرة حاضرة بالوعي والمعنى، وعقل يُسبغ على أي فكرة بعدا وعمقا جديدا وضبطا هائلا في استخدام الألفاظ.
في ذات زيارة، أخذنا الحديث عن مجتمعات "ما بعد العلمانية"، وأعربت له عن تأثري الكبير بما قاله في ذلك ابن مدرسة فرانكفورت اليسارية "هابرماس"؛ من أن الثقافة الغربية تجاوزت محنة الإيمان بجدلية العلاقة بين المرجعية الدينية والديمقراطية، مؤكدا على الدور الهام للدين في التكوين الاجتماعى والسياسي للشعوب.. فأضاف هو بعدا أعمق لكلام "هابرماس" عن العلمانية، وقال "إن العلمانية حينما تقول لي استقل سياسيا واقتصاديا؛ تفقدني الهوية التي بها أستقل، وتفقدني إرادة الاستقلال. فاستقلالي هنا لا يكون بإرادة استقلال حقيقية.. ومن هنا بدأت استعادتي لهويتي، وبدا لي الفكر العلماني في مأزق؛ لأنه يؤدي إلى تجريد الإنسان من هويته المرتبطة بعقيدته وحضارته، بالإضافة إلى أنه مناقض لقيم الديمقراطية؛ لأن الديمقراطية في النهاية تكوينات شعبية لها استقلالية ذاتية في إدارة شؤونها الخاصة، وانصياع لحكم الغالبية من الناس الذين قد اختاروا الموقف الديني والموقف العقائدي أساسا لرؤيتهم ودنياهم..".
اليسار المصرى حانق على الرجل، لكنه يكن له احتراما كبيرا
ماذا لو مات سلطان خلف القضبان؟
أحداث الواحات والتمييز في الدماء