لا أتصور أن أحدا من الناس العاديين في مصر يشغل باله بموضوع تعديل الدستور الذى تتصايح بعض الأصوات داخل البرلمان المصري وخارجه عن ضرورته لأنه كتب على عجل وفى ظرف استثنائي وهو الكلام الذى نفاه رئيس لجنة الخمسين التي كتبته (عمرو موسى)، وأيضا رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بالبرلمان الذى قال جملة قوية في سياق رفضه لمسألة التعديل هذه أن الدستور في جميع دول العالم يعتبر منهج لعمل متكامل للدولة ويبنى الاستقرار والهيبة والثبات وبالتالي فإن تعديله بعد هذه المدة (3 سنوات) ليس في صالح مصر، وعدم اهتمام الناس العاديين بهذا الموضوع شيء سيئ وغير مفهوم إلا في سياق واحد وهو سياق الإحباط والمعاناة، الإحباط الذى يقترب من اليأس والمعاناة التي تقترب من العجز، والدستور كما يقول المؤرخ الكبير د/ بشير نافع هو (وعى وإرادة جمعية) والوعى والإرادة الجمعية لا تنبت في الأرض الخراب (مع الاعتذار لشاعر إنجلترا الكبير إليوت) هى صفات تنبت في أرض الفكرة والإرادة والحرية.
سيكون علينا أن نراجع تاريخنا ونبحث فيه عن ما يقترب من هذه الصفات أو ما شابهه أو ما كان منه دانيا كما يقول قيس سنقترب من حقبة تاريخية هي الأروع والأعظم في تاريخ الثورات الإنسانية بلا مبالغة في الوصف (1930-1935م) يصفها بعض المؤرخين (الثورة المنسية) وهوما سنعرف حقيقته بعد قليل.
تقول الحكاية أن دستور 1923 كان نتيجة طبيعية لثورة عام 1919م وما ترتب عليها من حقوق كبيرة للمصريين فاعترفت بريطانيا باستقلال مصر القانوني في تصريح 28 فبراير 1922 وتحولت مصر من سلطنة إلي مملكة، لكن الملك فؤاد لم يتحمل دستور 1923 وما أنتجه من حكومة قوية ومجلس نيابى قوى فانقلب عليه ثلاث مرات أعوام 25و28 و1930م وكتب بالأمر المباشر دستورا معيبا عرف بدستور 1930م أعطي له صلاحيات واسعة حتي سمي بـ(دستور الملك) مقابل دستور 1923 الذي سمي (دستور الشعب).
وبدأت (الثورة المنسية) وأخذ النحاس باشا أحد رموز الوطنية المصري في العصر الحديث يطوف البلاد مدينة مدينة يخطب في الناس ويناديهم من أجل الحفاظ على دستور 1923م الذى كتبته لجنه أسماها سعد زغلول مؤسس حزب الوفد (بلجنة الأشقياء)، ولم يكن عضوا بها ومع ذلك قاد النحاس (زعيم حزب الوفد) الأمة وثورتها للالتفاف حول هذا الدستور من أجل أن يكسر شوكة الملك فؤاد ويسطر لتاريخ هذا الوطن أعظم السطور في الحفاظ على الدستور من التلاعب مهما كان الرأي في بعض مواده، وكانت أول زيارة له في تلك الرحلة الدستورية مدينة الزقازيق 1930/7/1 وعقد مؤتمرا أخر بالمنصورة ونزل الجيش الشارع بأمر من الملك وأطلق الرصاص على المصريين!! نعم أطلق الرصاص على المصريين الذين كانوا يطالبون (بعودة) دستور 1923م.
وفى القاهرة كان الخطب أشد وأكثر هولا، وكان الجيش والشرطة أكثر شراسة ودموية، وثارت الأمة كلها واستقال أغلب العمد والمشايخ وتحالف الوفد مع خصومه السابقين دفاعا عن الدستور الذى أصبح أيقونة لقوة الأمة أمام الملك الطاغية فؤاد (الصورة الشهيرة للنحاس باشا وهو نائم على كنبة محطة سكة حديد إحدى المدن كانت في هذه الأيام) ودفع الشعب أكثر من 500 شهيد وجريح وهو رقم كبير قياسا لتعداد السكان وقتها وأمام كل هذه الضغوط وبعد خمس سنوات يوم 12/12/1935م أصدر الملك قرارا بعودة دستور 1923م بعد ثورة شعبية حقيقية سالت فيها دماء كثيرة.
بعدها جاء 100 ضابط و11 دبابة في (1952م) وألغوا هذا الدستور الذى لم يتفق المصريون على شىء مثل اتفاقهم عليه لتشهد مصر تطورا تراجعيا مذهلا ليعيش الوطن الليالي الطويلات محزونا مسهدا عبر(جمهورية الضباط ) فيصدر إعلان دستوري 1 في 10/12/52م ثم إعلان دستوري 2 لفترة انتقالية وفى يناير 1953م اختار الضباط ولم يكن الرئيس نجيب قد عٌزل بعد، اختاروا خمسين قامة من أكبر القامات المصرية في المجالات السياسية والثقافية والقضائية والأكاديمية عرفت بلجنة الخمسين ترأسها على ماهر باشا (1881-1969م) الذى شارك في ثورة 19وشارك في لجنة الثلاثين التي كتبت دستور 1923م وكان رئيسًا للوزراء أربع مرات سابقة وكان رئيسًا للديوان الملكي في عهد الملك فؤاد ورتب خروج الملك فاروق بكياسة وحنكة باختصار كان قادمًا من تاريخ كبير وعظيم في الحياة السياسية المصرية المعاصرة واستحق عن جدارة لقب رجل الأزمات.
كانت نصوص مواد هذا الدستور المجهول تكفل مساحة واسعة من الحقوق للشعب المصري العظيم تجمع بين الحقوق السياسية والاجتماعية وبين الديمقراطية والعدل الاجتماعي. لم يحدث في تاريخ مصر- لا أثناء كتابة دستور1923م ولا أثناء كتابة دستور1956م ولا أثناء كتابة دستور1971م (فيما بعد) - لم يحدث أن ضمت لجنة لإعداد مشروع دستور مثل هذه الكفاءات الفكرية والقانونية والسياسية التي ضمتها (لجنة الخمسين).
ورغم ذلك فإن مشروع هذا الدستور الذى استغرق إعداده نحو 18 شهرًا تم تجاهله تجاهلا مميت، بل وتم إخفاؤه إلى أن عثر عليه في صورة مجموعة من الأوراق المبعثرة في مكان مجهول وليس محفوظًا كوثيقة رسمية تعبر عن فترة من أهم فترات التحول التاريخي في مصر الحديثة، ولا عن جهد هؤلاء العمالقة التي يندر أن تتوافر وتجتمع في عصر آخر ووضعت هذا المشروع، إلى أن عثر عليها الأستاذ صلاح عيسى الصحفي المعروف بمعاونة المستشار الجليل الحكيم البشرى والدكتور أحمد يوسف أحمد عميد المعهد العالي للدراسات العربية في صندوق كان قد وضع في أحد مخازن مكتبة المعهد، صلاح عيسى توج جهده هذا بإصداره في كتاب (دستور في صندوق القمامة) كتب مقدمته المستشار عوض المر الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية الذى قال إن (خير تعبير عن نظرة رجال الثورة إلى الديمقراطية وإلى القيم التي احتواها هذا المشروع هو وضعه في صندوق القمامة تعبيرًا منهم عن قيمته العملية فلا يراه أحد وكأنه خطيئة لا يجوز أن يقربها الباحثون أو غيرهم ممن تعنيهم وتؤرقهم شئون هذا الوطن)، ليدخل بنا رجال الثورة بعدها عصر الخيبات الكبرى والنظام المنتصر على شعبه.
كانت ملامح الحياة السياسية أثناء كتابة هذا الدستور قد بدأت في التشكل والبروز وبدأ الشره الرهيب على البكباشى جمال حسين عبد الناصر في الاستحواذ التام على السلطة التنفيذية وهو ما أفزع هذا النفر من حكماء الأمة الذين تجمعت آراؤهم حول اللواء محمد نجيب ليأتي رئيسًا للجمهورية الذى نادى صراحة بضرورة عودة الجيش إلى ثكناته فوضعوا النص الذى يشترط على ألا يقل سن رئيس الجمهورية عن خمسة وأربعين عامًا، لكن البكباشى (34 عامًا) كان قد رتب أموره جيدًا وأبعد اللواء نجيب وتخلص منه بأخس وأحط الوسائل، ثم تخلص من هؤلاء الحكماء فيما بعد جماعات وفرادى، وظلت البلاد تحكم بإعلان دستوري مؤقت إلى أن صدر دستور 1956م الذى ألغى بعد الوحدة مع سوريا وصدر دستور مؤقت للجمهورية العربية المتحدة بعد انتهاء الوحدة في 28 /9/1961 ثم صدر إعلان دستوري في 27/9/1962 لتنظيم سلطات الدولة العليا لحين إصدار دستور جديد في 24 مارس 1964م المؤقت ليستمر حتى صدور الدستور الدائم في 11/9/1971م. الذى تمت عليه تعديلات كثيرة في فترة السادات ومبارك إلى أن جاءت ثورة الشعب في يناير 2011 وتغيرت الأيام وتبدلت السنين وتغير وتبدل معهما الفكرة بمعنى(الدستور) الذى يعبر عن الوعى والإرادة الجمعية .
يحتاج الوطن إلى كثير الكثير من الجهاد والنضال كي يصل الناس إلى هذا الوصف، وسيظل (الدستور) مجرد أوراقا ونصوصا إلى أن تكتمل دائرة الوعى بدائرة الإرادة الشعبية وفى ذاكرة الوطن ما يجعلنا نتسع في دائرة الأمل وها هي (الثورة المنسية) تذكرنا بأنا كنا ولازلنا سنكون.
سيذكرني قومي إذا جد جدهم.. وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر.