ربما لم تكن الحالة الفلسطينية في العقود الثلاثة الأخيرة كما هي الآن؛ من جهة عزوف الفلسطيني عن النقاش السياسي الوطني، وشعوره بانعدام الجدوى، فحتى النقاشات السياسية التي قد تُثار تقليديّا في المناسبات الاجتماعية -كما هي عادة الفلسطينيين- لا تنمّ عن أي قدر من الحماسة لدى المتحدثين، لكنها طقس فلسطيني أخذ بالضمور، وصارت تدور غالبا حول التردي الاقتصادي والضيق المعيشي ومراوحة الحركة التجارية مكانها، أو أنها لا تعدو أن تكون نقدا ملولا لجملة الأوضاع القائمة المستغلقة.
الفلسطينيون بطبعهم؛ هم أكثر الشعوب العربية تسييسا على الإطلاق، ومع أنهم يتمركزون حول قضيتهم، إلا أن هذا التمركز لم ينعكس جهلا بالمحيط والعالم، ولا يرجع ذلك إلى حالة الشتات التي عاناها الفلسطينيون وبالتالي ارتباطهم بعدد من الجغرافيات في العالم فحسب، ولكن لأن ظروف الاحتلال جعلت حياتهم السياسية أكثر حيوية.
وطبائع الصراع وَسَمَتْ هذا الشعب بالجرأة والتمرد، وهي سمات استعصى فهمها وتفسيرها على العرب الآخرين الذين رأى بعضهم في الحسّ النقدي لدى الفلسطيني كراهية أو حقدا، والأمر لا يعدو أن يكون اختلافا في الشخصية مرجعه اختلاف الظروف التي عاشها الفلسطينيون وجعلتهم شعبا مسيّسا ومتمردا.
من جملة تلك الظروف أن الفلسطينيين افتقروا للدولة أو الكيانية على النمط العربي، وهو النمط الذي يُماهي بين الحاكم أو النظام الحاكم وبين الدولة، بل ويماهيه بالوطن، ولم تكن القيادة الفلسطينية إلا قيادة قادمة من قلب الجدل الفلسطيني نفسه، جدل النضال والصراع والمنافسة الحزبية، وهو الأمر الذي جعل القيادات الفلسطينية محل اختلاف ونقد محتدمين، بينما في المقابل العربي كان ثمة حالة تقديس للحاكم وتخويف بأجهزة قمعه يجري نشرها وترسيخها في المجال العربي حيث الفرد العربي الذي قد يرى نقد الفلسطيني لحاكمه اعتداء على وطنه!
تغير شيء كثير من ذلك مع نشوء السلطة الفلسطينية، فقد صار أمام الفلسطينيين لأول مرّة كيانية داخل الأرض المحتلة تتشبّه بالدولة، وهي الكيانية التي ومنذ مجيئها أخذت باستنساخ النمط العربي، الأمر الذي بدأ ينتقص من جرأة الفلسطيني وتمرده، فبينما كان الصراع مع الاحتلال هو السبب في تشكّل تلك الشخصية الجريئة والمتمردة، كان نشوء كيانية فلسطينية داخل الأرض المحتلة سببا في الانتقاص منها.
لكن محض النشوء على أثره ودوره، لم يكن كافيا للذهاب بالشخصية الفلسطينية إلى ما هي عليه اليوم، إذ رافق هذا النشوء موت تدريجي للحياة السياسية الفلسطينية؛ في بعدها الداخلي الحزبي الفلسطيني، وفي بعدها الصراعي مع العدو المحتل، كما تجلّى ذلك من بعد ما الانقسام الفلسطيني، إذ توقفت انتفاضة الأقصى، وزادت السلطة بالضفة من ممارساتها الدولانية على النمط العربي.
كان ثمة سياسات ممنهجة تهدف إلى إغراق الفلسطيني في همّه الفردي بما يتناقض بالكليّة مع واجباته إزاء الصراع، واستخدمت في ذلك الأدوات الاقتصادية والأمنية والثقافية، وقد تطلب ذلك كلّه إغلاق المجال السياسي تماما، لا في الميدان فحسب، ولكن حتى في الفضاء الإلكتروني كما حصل أخيرا في قانون الجرائم الإلكترونية الذي يجعل من الكلمة تهمة ومن العمل الصحافي جريمة، فالأمر كله خاضع للمزاج التأويلي والسياسي والأمني للجهات المسؤولة.
أما في غزة، ورغم سلسلة الحروب التي خاضتها حركة حماس مع بقية فصائل المقاومة وقدّمت فيها أداء ملهما وجاذبا، إلا أنها، أي حماس، وبما تمثله من الحركة الفلسطينية الرئيسة الأُخرى إلى جانب فتح، لم تعد حركة مقاومة خالصة في وعي الفلسطيني، إذ صارت أيضا حركة سلطة لها ممارسات سلطوية، يصعب في ظل الانقسام الفلسطيني، عزلها تماما عن ممارسات سلطة الضفة، لاسيما في قضايا الحريات، فضلا عن كون الأوضاع المعيشية في القطاع، والناجمة عن الحصار والحروب، عرضة للسخط الذي يستبطن دائما مقارنة بأوضاع الضفة.
سبق لي وأن استخدمت لتوضيح الأساس في الظروف المختلفة بين الضفة وغزة تعبير "الظروف الاستعمارية المتباينة"، وكذلك تعبير "السياسات الحاكمة المتعارضة في المنطقتين"، فإذا كانت السياسات الحاكمة في الضفة تنبني على الظرف الاستعماري الخاص بالضفة فأمكنها أن تغرق الفرد الفلسطيني بهمّه الشخصي وتعزله عن الهمّ العام، فإنّ الظرف الاستعماري الذي فرض على غزة الحروب والحصار خلق هناك قضية خاصة بالقطاع هي قضية رفع الحصار.
وإذن فليس ثمة حياة سياسية داخلية تقوم على المنافسة الحرّة والمباشرة بين القوى والأحزاب الفلسطينية، إذ تقتصر هذه الحياة على الانقسام بين فتح وحماس والذي يتخذ شكلا جغرافيّا بما يفقده تلك المنافسة الحية والمباشرة، ويفقده معنى الهدف النضالي المشترك، بل ويجعله من أسباب الموات العام، إذ الانقسام ومهما كان أساسه السياسي أو الوطني، هو في وعي الجمهور انقسام على السلطة.
وليس ثمة من نضال مفتوح أو حالة كفاحية تستغرق الفلسطينيين وتعيد دمجهم في القضية الوطنية العامّة، فالنضال كان دائما هو الماء الذي يتنفس فيه الفلسطيني، ويجد فيه المعنى، ويستمد منه الكرامة والجرأة والتمرد، فإذا كان ضمور الحالة الكفاحية يؤدى إلى تراجع الهم العام، واستمرار الانقسام بشكله الراهن يفقد النقاش السياسي حماسته، فإن الممارسات السلطوية التي تستنسخ النمط العربي فاقمت من حالة الشلل العام.. ذلك كله أخذ ينمو مع نشوء السلطة، وصولا إلى الوضع الراهن.