الزمن توقف عند هذه القصص الصغيرة. سنوات هبطت على كتفي كقطع الدومينو فصار عمري قرونا. في غرفة ما بعقلي أحتفظ بصورهم. أحدثهم أحيانا. هذه القشعريرة التي تغزو كتفي كلما تحدثت إلى صورهم. أنا لم أنس أحداً منكم أبدا. لم أنس هذه الفتاة الجالسة في الفراغ وسط تلك اللوحة الشيطانية التي يبتسم الدخان من فوقها, تجلس لتدق بطبق معدني وسط الخرائب. جهاد لحظاتها الأخيرة التي قررت استثمارها في دقات حاولت بها أن تنقذ نفوسا لم تعرفها.
الصور أمامي، هذه أولا ثم هذه .. مازلت أبحث عن صورته.
صور الدخان هذه في بداية الهجوم ثم هذه بعدها.. هنا تزحف أمواج اللون البرتقالي القادمة من أفق تصهره شمس أغسطس، تحتاج المسافة لتصل إلى ذلك الجالس يحمل زميله.
في هذه الصورة رجال لاهثون يحملون طفلا في شرشف. هذه الصورة لا تزال تبكيني.
نعم .. إنه هنا في هذه الصورة. هناك يقف ذلك الطفل خلف جدار يحميه مؤقتا من الرصاص، يعدل ثيابه بحركة سريعة وبيدين طفوليتين ثم يرفع الأذان. هذه صورة أخرى من ظهيرة أو عصر ذلك اليوم.
كان يرفع صوته بالأذان ثم يختلس نظرة بينما تزأر الفوضى حوله في كل مكان ويعلو الضجيج.
صورة الرئيس مرسي على الجدار بجانبه وأصوات أخرى تتعالى ترسم وهو يؤذن ويحاول أن يطاول كل هذا الهول حوله بقامته الصغيرة.
كم سنة كبر ذلك الطفل في تلك اللحظات؟
لم يكن يعلم متى تحين لحظاته الأخيرة لكنه قرر ألا يمنعه صوت الرصاص وسحب الدخان الأسود عن رفع الأذان. من منح ذلك الطفل تلك الرجولة؟
تكبيرات الأذان بثت الطمأنينة في قلبه.
كيف تحول من طفل يجفل خوفا إلى شاب يرفع الأذان بينما تتطاير حول أذنه زخات الرصاص وسحب النار؟
ما الذي جرى له في تلك الساعات؟
هل استشهد والداه خلال ساعات النهار؟
هذا طفل ألقوا بالحجارة في بئر ما في نفسه, فلم يعد بها متسع لطفولة.
لابد أنه شاب في تلك الساعات. الصيحات حوله تدوي، أنهم يقتحمون الميدان .. لقد هاجموا المنصة .. أول شهيد ارتقى .. أصوات الرصاص من حوله .. دخان الرصاصات وحر أغسطس.. الجرافات تدوس جثامين الشهداء .. القناصة يقتلون المعتصمين .. لقد أحرقوا المستشفى الميداني والمسجد ولم يبق فيهما شيء.. ما هذه الهول.. لقد شاب الطفل في ساعات.
منذ ساعات فقط قبل أن يهبط الدخان على رابعة، بات الطفل يحلم بدراجة .. بلعبة .. بملابس جديدة .. تبادل ضحكات مع أبيه وأمه ثم استيقظ على الدخان والصوت المعدني المتصاعد من الميكروفونات.
لابد أنه لم يفهم ما يجري حوله في بداية الأمر. ربما حاول الاحتماء بأبيه أو بأمه. الله وحده يعلم. المؤكد أن عالمه تبخر في ساعات أو على الأقل لم يعد كما كان.
هل رأى ألسنة اللهب وهي تأكل أرض رابعة بما عليها؟
هل رأى عبد الحكيم عبد الناصر وهو يقف أمام المسجد مبتسماً لكاميرا ما؟
هل رأى المسجد المحترق وسحب الحزن تكسوه وألسنة لهب صغيرة تتصاعد من الأرض؟
هل شهد الاحتفالات المسعورة التي أقامها البعض بعد المجزرة؟
هل قرأ تغريدات المتشفين في المجزرة؟
هل شاهد رمضان وهو يستحلف أمه بالله أن تستيقظ؟
هل سمع عن عشرات المآسي بعد رابعة؟
أنا شخصيا لا أعرف ... ما أعرف أن صورته لا تتلاشى من ذاكرتي وأنني أذكر أنه كان يؤذن في رابعة.