قضايا وآراء

العقوبات الأمريكية.. السودان وكوبا وبينهما إدارة ترامب

1300x600
تسيطر حالة من الترقب والحذر حول القرار الذي ستتخذه إدارة ترامب في 12 تموز/ يوليو المقبل تجاه مسألة العقوبات المفروضة على السودان منذ العام 1997. ومع ازدياد حدة الجدل حول هذه العقوبات بين مؤيد ومعارض لرفعها، فإن هذا القرار سوف يعطي مؤشرات لقراءة سياسات الإدارة الحالية في أكثر من ملف وأكثر من محور.

وفي الوقت عينه، سيثير هذا القرار الكثير من الجدل في واشنطن- كما هي سياسات ترامب منذ وصوله للبيت الأبيض- سواء كان برفع هذه العقوبات أو الإبقاء عليها أو تشديدها، أو حتى احتمال فرض عقوبات جديدة على السودان.

وفي خضّم بروز المواقف المختلفة تجاه العقوبات على السودان، ومع انتهاء مهلة الستة أشهر الممنوحة للخرطوم، قام الرئيس ترامب في 16 حزيران/ يونيو الحالي بإلغاء قرارات الإدارة السابقة تجاه كوبا، والتي كانت قد سمحت بالبدء في تطبيع علاقات البلدين بعد نصف قرن من القطيعة والتوتر بينهما.

وقبل ذلك، كانت إدارة أوباما السابقة، وقبل انتهاء فترة ولايتها، قد قامت بشكل مفاجئ بتخفيف العقوبات على السودان، مع وضع أجندة يقاس من خلال مدى التزام السودان بتلك الشروط الخمسة في غضون ستة أشهر، تنتهى في حزيران/ يونيو الحالي، قبل استكمال رفع العقوبات.

ومما لاشك فيه، فإن قرارات ترامب التي أصدرها تجاه كوبا؛ قد ألقت بظلال سلبية على التوقعات بشأن موقفه من السودان. فهل سيفاجئ ترامب الجميع باتخاذ قرارات تجاه العقوبات على السودان تكون على غير المتوقع؟

إن تبني ترامب سياسة "تراجعية" عن كافة سياسات سلفه أوباما أمر يبدو مقلقا، ليس فقط للسودان وللمراقبين، بل حتى للأمريكيين أنفسهم، ومن الصعب جدا التنبؤ بشكل القرار الذي سيتخذه ترامب إزاء مسألة العقوبات وشطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

في الواقع، يوجد تفاوت وانقسام حاد داخل واشنطن في التعامل مع السودان، وتعزّز هذا الانقسام مع تسلُم الإدارة الحالية زمام الحكم، حيث يصطرع داخلها ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول، وتمثله الدوائر الرسمية (الخارجية والدفاع والاستخبارات المركزية)، ويؤيد رفع العقوبات وشطب اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، ولكن مع وضع مزيد من الشروط، وينظر للسودان كشريك في تحقيق المصالح الأمريكية.

وأما الاتجاه الثاني، وتمثله لوبيات قوية جدا بالكونغرس (من الحزبين الجمهوري والديموقراطي)، وتقف من ورائها مجموعات الضغط (خاصة مشروع كفاية)، وهذا الاتجاه لا يعارض رفع العقوبات فحسب، وإنما يدعو إلى فرض حزمة عقوبات جديدة مشددة (عقوبات ذكية).

وهناك اتجاه ثالث هو امتداد للسابق، وتمثله مراكز البحث والدراسات (الثنك تانك). ففي تموز/ يوليو الماضي، قال تقرير لمجموعة ستراتفورد الأمريكية - المتخصصة في التوقعات الجيواستراتيجية - إنّ رفع العقوبات سيساعد على "تحسين سجل حقوق الإنسان وحل المشكلات الداخلية بالبلاد".

إزاء تلك الخيارات، تواجَه إدارة ترامب بإرث من العقوبات غير الفعالة والمُضِرّة بالأبرياء، خاصة بعد تجربة العراق وغزة وغيرهما، حيث بات نمط العقوبات التقليدي كتدابير وآليات غير محبَذ لما يسببه من حرج أخلاقي، ويجد مقاومة كبيرة جدا عالميا. وفي حالة السودان، لم تؤد العقوبات التي فرضتها اشنطن إلى تحقيق أهدافها أو إجبار الحكومة السودانية على تغيير سلوكها أو سياساتها، بل دفعت الخرطوم للتوجه شرقا نحو الصين وروسيا ودول جنوب شرق آسيا وإيران من أجل الالتفاف على هذه العقوبات ولتحديها كذلك.

تبدو إدارة ترامب شديدة التقلب والتخبط بشكل عام، مع ذلك سيكون أمامها خياران فيما يخص السودان: الخيارالأول الإبقاء على العقوبات بشكلها الحالي وعند هذا المستوى الحالي، ومن ثم إعطاء السودان مهلة أخرى لمراقبة مدى التقدم الذي سيحرزه في ملفات بعينها. وأما الخيار الثاني فهو: تجديد العقوبات بنمط عقوبات ذكية، وهذا يفهم – وبالتالي يرجح - في سياق المساومات والتنازلات والمفاضلة بين الخيارات والسياسات بين الفرقاء المتشاكسون في واشنطن، بما يحقّق المصالح ويحمي المكانة والقيم الأمريكية.

في سياق الحديث عن العقوبات في حالتي كوبا والسودان، تلعب الفوارق الجوهرية بين الجاليات أدوارا مهمة في فهم المواقف تجاه العقوبات في كلا البلدين. فالجالية الكوبية قديمة ومتجذرة في المجتمع والحياة الأمريكية، وناشطة بشكل مُنظّم ولها أجندة متماسكة، بينما الجالية السودانية ضعيفة ومفككة ومنقسمة - تجاه العقوبات - لكونها قد تشكلت مواقفها نتاج الأزمات والظروف الاستثنائية، حيث تسيطر عقلية الضحية/ المُضطّهَد على الناشطين فيها، وخاصة تلك الفئات التي تدعم فكرة العقوبات بقوة من منطلق مصالح فئوية ضيقة جدا.

أيضا، المنفيون والمنشقون الكوبيون، والكوبيون من أصول أمريكية، يمتلكون إرادة قوية في تشكيل سياسات واشنطن تجاه كوبا وتحديد أجندة واضحة، وهم من عارض تطبيع العلاقات مع هافانا على حسابهم، بخلاف السودانيين الذين هم في تبعية تامة للوبيات أو الناشطين الذين ليسوا بالضرورة سيخدمون أجندة "وطنية" لأي جالية، ما لم تكن هذه الجالية مبادِرة وقوية ومنظَمة وقادرة على رسم السياسات تجاه بلادها والتأثير فيها.

كذلك، توجد عدة عوامل تدفع واشنطن للتخلي عن سلاح العقوبات على الدول، خاصة السودان، منها: التراجع النسبي في مكانة واشنطن، وتغيير أولويات السياسة الأوروبية، والتكالب على أفريقيا، والتغيرات الجيواستراتيجية في الشرق الأوسط وفي المحيط الإقليمي للسودان، التحول في ديناميات الصراع الداخلي في السودان.. فهذه كلها عوامل جعلت من العقوبات الأمريكية غير ذات جدوى.

وهناك عوامل أخرى مهمة في المقارنة بين الحالتين، منها: تراجع نفوذ "اليسار الجديد" بعد موجة صعود كبير في العقدين الأخيرين في أمريكا اللاتينية، تخفّفت معه - تبعا لذلك - بواعث القلق لدى الدوائر الأمريكية. وكذلك تزايد نفوذ عدوين لدودين لواشنطين في السودان هما: روسيا والصين، وهو ما يدفع واشنطن لتبني سياسة تقوم على تحييد السودان والحد من أي انعاكاسات سلبية لهاتين القوّتين على المصالح الأمريكية. وهذه نقطة قد تصب في صالح موقف السودان، وبالتالي ترجيح خيار رفع العقوبات والتعاون معهبدل الخيارات السابقة كالعزلة والقطيعة والعقوبات والحصار.

غير أنه يجب التفطن إلى أنه لا يزال هناك قدر من الفراغ في سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا، قد يلقي بظلاله؛ إذ لم يعيّن ترامب مستشارا للشؤون الأفريقية بعد، كما استقال المبعوث الأمريكي للسودان وجنوب السودان، السفير دونالد بوث، بناء على طلب ترامب الذي دعا كافة السفراء الذين عينتهم الإدارة السابقة للاستقالة، بينما ظلّ مستوى التمثيل الديبلوماسي الأمريكي بالخرطوم عند مستوى القائم بالأعمال.