خيم على منظومة دول الخليج العربية، منذ مساء الثالث والعشرين من مايو/ أيار، مناخ من التأزم ثقيل الظلال. في ظاهر الأمر، اندلعت الأزمة الخليجية بسبب نشر تصريحات لأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، تبين سريعاً أنها، ومهما كانت دلالاتها، مختلقة من أساسها، وأن موقع وكالة الأنباء القطرية الذي حملها تعرض للقرصنة. وإن كانت قرصنة موقع وكالة أنباء رسمية في أي دولة مشكلة بحد ذاتها، فقد كانت المشكلة الأكبر في الطريقة التي تعاملت بها دولتان عربيتان خليجيتان، ودولتان فقط، مع التصريحات المختلقة. بخلاف كل دول العالم أجمع، بدأت كل وسائل الإعلام الرسمية، وغير الرسمية، في الإمارات والسعودية، وخلال دقائق من قرصنة موقع الوكالة القطرية، ترويج التصريحات المدعاة، ومن ثم استخدامها ذريعة لهجوم غير مسبوق على قطر وأميرها. بالنظر إلى التطور الهائل للأزمة، يمكن الاستدلال بدرجة عالية من اليقين أن المسالة لا تتعلق بالتصريحات، ولا بمضمونها، وأن من تعهدوا الحملة كانوا ينتظرون قرصنة موقع الوكالة القطرية لإعلان الحرب.
هذه مسألة أكبر بكثير من الخلاف حول التصريحات ومصداقيتها. الذي أمر وسائل الإعلام بالامتناع عن نشر النفي القطري لحقيقة التصريحات المنسوبة للشيخ تميم، كان يعلم أن المسألة لا تتصل بما قيل أو لم يقل. كما أن طبيعة الحملة، استمرارها بلا هوادة، انتظامها، وتصعيدها طوال الفترة بين 23 مايو/ أيار و5 يونيو/ حزيران، عندما أعلنت السعودية والإمارات، ومن ثم البحرين ومصر، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، يشير إلى أن المسالة تتجاوز، أو على الأصح، تسبق، التصريحات. لم يقتصر الأمر على قطع العلاقات، بل وصل حداً لم يسجل في تاريخ العلاقات الخليجية ـ الخليجية، التي تعرضت لعديد من الأزمات منذ ستينيات القرن الماضي. عرفت العلاقات الخليجية وقوع حرب بين السعودية وأبو ظبي، اشتباكاً حدودياً بين السعودية وقطر، توتراً سعودياً ـ كويتياً على حقل نفط مشترك، نزاعاً قطرياً ـ بحرينياً على الحدود البحرية بين البلدين، اتهامات بمحاولة انقلاب إماراتية في عمان، وخلافات سياسية من جميع المستويات، قبل تأسيس مجلس التعاون الخليجي وبعده. بيد أن هذه هي المرة الأولى التي تتفاقم فيها أزمة ما إلى قطيعة دبلوماسية، طرد مواطنين، حصار بري وجوي، اتهامات بتهديد الأمن الوطني، ومساندة الإرهاب. لست خبيراً في القانون الدولي، ولكني لا أعرف خلافاً في التاريخ الحديث للعلاقات الدولية، تضمن قيام مجموعة من الدول، والدول الشقيقة، بفرض حصار سياسي واقتصادي بهذه الحدة على دولة أخرى، في زمن السلم.
ولم يكن غريباً، في ظل حدة الأزمة ومفاجأتها للعالم، أن يعلن وزير الخارجية الألماني تخوفه من احتمالات اندلاع الحرب، وأن يحذر رئيس الحكومة التركية من تحول الأزمة إلى أزمة دولية. يعتبر الخليج واحداً من أكثر المناطق حساسية في العالم، وكما أن استقرار المنطقة محل اهتمام القوى الإقليمية والدولية، فكذلك سيكون فقدانه للاستقرار. فلماذا إذن تنفجر الأزمة بهذه الحدة، ولماذا، في وقت يتطلب وحدة خليجية لمواجهة تحديات الحرب في اليمن والتعامل مع التهديدات الإيرانية، تختار السعودية المخاطرة بالعلاقات الخليجية ـ الخليجية؟
تقول الفرضية السائدة منذ 2011 أن الحراك الجماهيري الذي أطلق رياح الثورة والتغيير في المجال العربي كان تعبيراً عن أزمة الجمهوريات، وليس الدول الملكية، وأن منطقة الخليج، على وجه الخصوص، محصنة ضد أمثال ما شهدته تونس ومصر وليبيا واليمن. تحكم دول الخليج، بالرغم من أنها ليست دول ديمقراطية، بأي صورة من الصور، من قبل أنظمة أبوية، وتتمتع بثروات هائلة، تجعلها قادرة على احتواء أي امتعاض شعبي، كما نجح أغلبها في بناء أجهزة أمن بالغة الكفاءة، تستطيع التعامل مع أية مخاطر يصعب احتواؤها بالطرق التقليدية. الواضح، بالطبع، أن هذه القراءة لم تر في الحراك الثوري العربي سوى المواجهة المباشرة بين الشعوب وأنظمتها الحاكمة، وأنها أغفلت الوجه الآخر لما يشهده المشرق منذ اندلاع حركة الثورة العربية. فسواء تغيرت أنظمة الحكم أو لم تتغير، تعكس المواجهة متعددة الأوجه، المستمرة منذ خمس سنوات، بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، ليس فقدان الدولة العربية مبررات الاستمرار، وحسب، ولكن انهيار النظام الإقليمي برمته، كذلك.
منذ الانقلاب المصري في صيف 2013، تعهدت قوى الثورة المضادة مشروعاً لاستعادة الدول التي انهارت فيها أنظمة الحكم، والعودة إلى الوضع الراهن السابق. ولكن نجاح المشروع كان جزئياً وشكلياً في أفضل الأحوال. أجهضت عملية التحول الديمقراطي، بالفعل، وعادت الطبقات القديمة للحكم، بهذه الصورة أو تلك، ولكن الأنظمة الانقلابية الجديدة لم تستطع اكتساب الشرعية الضرورية، وتبدو عاجزة كلية عن الاستجابة لطموحات الناس ومطالبهم. التشويه الفادح الذي أوقع بدول مثل مصر وسوريا والعراق، وما يبدو من استحالة استرجاع أي منها ثقلها ودورها السابق، جعل من محاولة إعادة بناء النظام الإقليمي أكثر تعقيداً بكثير من التصدي لحركة التغيير والتحول الديمقراطي.
ما تستبطنه فرضية إعادة ترميم النظام الإقليمي المشرقي أن سوريا والعراق تتعرضان للتشظي، وتحتاج مصر عقوداً قبل أن تقف على قدميها، هذا إن استطاعت، يوماً، ولذا، فعلى السعودية أن تقود، على السعودية أن تفرض منظومة قيم جديدة، أن تعيد صناعة الاستقرار، أن تحدد لكل من دول الإقليم حجمها ودورها وموقعها، وأن تقرر طبيعة العلاقات في المنطقة، بما في ذلك العلاقات مع إسرائيل وإيران وتركيا.
مشكلة قطر أنها أصبحت، منذ ربع قرن، ذات علاقة وتأثير في أغلب أحداث وتحولات محيطها المشرقي، وليس دائماً بما يرضي القوى التي تعمل على استعادة الطبقات الحاكمة القديمة، أو ترميم النظام المشرقي الإقليمي. ولكن قطر ليست المستهدف الوحيد، ولن تكون الأخير. ومن العبث البحث عن ذرائع الحصار وقطع العلاقات. الشائعات المتداولة التي تقول إن الخلاف مع قطر يتعلق بـ «الجزيرة»، أو دعم الحوثيين، أو نسج علاقات مع الإيرانيين أو إسلاميين متطرفين في سوريا، لا تعكس تناقضات وحسب، بل وتخطئ جوهر الهدف. ما هو مطلوب ليس بحث مسائل خلاف والتوصل إلى توافق خليجي، ما هو مطلوب هو الخضوع الكامل والاستسلام. وبهذا فقط، من قطر ومن غيرها، يمكن بدء ترميم النظام المشرقي الإقليمي بقادته الجدد، يمكن فرض منظومة قيمه، تحديد وزن ودور كل دولة على حدة، وتشكيل خارطة العلاقات مع القوى في جوار العرب الإقليمي، الصديق منها وغير الصديق.
بيد أن من وضعوا هذا التصور لمستقبل المشرق وشعوبه لم يأخذوا في الاعتبار كل الحسابات الضروية، لم يروا كعب آخيل المشروع، ولا تحسبوا لمواقع كبواته المحتملة. فإلى أي حد يمكن إنجاز هذا التصور إن رفضت دولة واحدة، وليس قطر بالضرورة، الانصياع؛ إن لم تستطع الدول التي تقود المشروع إقناع حتى شعوبها بمسوغاته وأخلاقيته، وإن رفض أغلب القوى الإقليمية والدولية أخذه مأخذ الجد؟ الأرجح، في ضوء ما تجلى من جوانب الأزمة حتى الآن، أنها قد تنتهي إلى تقويض ما تبقى من النظام المشرقي الإقليمي، بما في ذلك مجلس التعاون ذاته، بدلاً من أن تعمل على ترميمه.