الفكر بين التأسيس والتحديث:
يعتبر "الفكر" بشكل عام انعكاسا لطبيعة حياة الجماعة الإنسانية التي تجمله، ويتحدد نوعه ونمطه بنوع حياتها ونمطها إضافة إلى الإطار العقدي الذي يوجِّه مسارها، فوفق ذلك تبنى أصول الفكر وتتحدد ملامحه ومقوماته. كما تتمثل أصالة أي فكر في قدرته على تفسير العلاقات والظواهر بدقة، مع تتبع النتائج والانطلاق منها في استشراف المستقبل، إضافة إلى القدرة على التغيير والتجديد والابتكار بعد استيعاب روح العصر ومتطلباته. ولأنه كان ممكنا القيام بمختلف الأنشطة الإنسانية إلى حد ما دون حاجة إلى عناء التفكير، فإن الأمر حتما يختلف حين يتعلق بفرز التصوُّرات والأحكام والرؤى المتعلقة بالحركة في إطار المجتمع أو الدولة أو الأمة؛ تخطيطا وترشيدا ومعالجة أزمات.
تقييم التطوير الفكري:
على المستوى التخصصي نلاحظ أن جلّ الحركات الإسلامية المعروفة على مستوى العالم قد مرّ على تأسيس أحدثها أكثر من نصف قرن من الزمان، ولقي مؤسسوها وأغلب الرعيل الأول فيها ربهم. وطبيعي أن بعد مرور تلك الفترة أن يسأل المهتمون عن المشروع الفكري لدى تلك الحركات كيف نشأ وتبلور، وما أثر الأزمات التي عايشها في ذلك؟ وهل حدث أي تطوّر فكري لدى تلك الحركات منذ تأسيسها؟ وما طبيعة ذلك التطوّر وحدوده وآثاره؟
وبنظرة عامة نجد تباينا كبيرا بين هذه الحركات فيما يتعلق بموقفها من التطوير الفكري لمشاريعها. فبينما نجد بعضها على أفكار المؤسس حرفيا، دون أي اعتبار لتغير المكان والزمان. نلحظ أن أغلبها قد أدخلت تغييرات فكرية طفيفة بفعل إكراهات الواقع وضغوطه وليس عن قناعة بأهمية التطوير الفكري.
وحتى يتسم تقييم التطوير الفكري بالموضوعية لا بد من المرور على أسئلة محورية تتعلق بمنظومة الأفكار الرئيسية لدى هذه الحركات، وهل تعتبر من الثوابت الشرعية أم الحركيّة؟ وما مكانة المؤسس الفكرية؟ هل هي مرجعية أم استرشاديه أم اجتهادية؟
فبعض الحركات استغرقت عقودا في إخراج الأبحاث والكتب والرسائل العلمية ليس فقط في تفسير فكر المؤسس، بل لمدح عباراته والتفنن في بيان دقتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، بل أزعم أن تلك المؤلفات كانت أكثر مما صنفه علماء نفس الحركة في التفسير أو الحديث أو الفقه أو السياسة. واللافت للنظر أن من ينادي بالتطوير الفكري داخل هذه الحركات؛ يستشهد كذلك حال اختلافه مع غيره بكلام الشيخ أو الامام أو المؤسس.
وكل يدّعي وصلا بليلي ... وليلى لا تقرّ لهم بذاك!
وكان يسع الجميع اعتبار ما قدّمه المؤسس خطوطاعامة كانت بلا شكّ متأثرة بواقعه وزمانه ومكانه ومجتمعه، ولو قدّر له أن يعيش إلى يومنا هذا لكان له رأي آخر، ولو كان يعيش في الغرب لكان له رأي ثالث. فإذا كانت الفتوى تتغير وفق الزمان والمكان والأحوال والعوائد، وكذلك الأحكام المستندة إلى العرف والعادة وتغير احتياجات الناس، كما قرر أهل العلم، وكما هو معروف من فعل الإمام الشافعي الذي غيرّ مذهبه حين انتقل من العراق إلى مصر، وهذا في الفقه المتعلق بالحلال والحرام وفي نفس الإطار الزمني، فما بالنا بتغيير الأفكار في إطار "المباح" نتيجة لتغير الأزمان ومرور العقود وتبدّل الوجود في عوالم مختلفة.
ورغم أن هناك إنتاجا فكريا للإسلاميين يتسم في عمومه بالتنوع والكثافة والامتداد الزمني، إلا أن محصلته تراوح في إطار الدفاع عن المسلّمات وتبرير الوجود، وهو ما يزال يشغل المساحة الأكبر من العقل الجمعي الإسلامي حتى أثناء محاولة البعض العبور من مرحلة التأسيس إلى غيرها.
منزلق التقديس والتبخيس:
شاركت في ندوة فكرية مع عدد من الأساتذة والباحثين المختصين، وأثناء النقاش اقتبست نصا لمؤسس واحدة من كبرى الحركات، وبعدها سألت الحضور: هل ترون هذا النص يلائم الواقع الحالي زمانا ومكانا؟ وإن كان غير ملائم فهل يمكن تغييره؟ فردّ أستاذ جامعي تعلّم في الغرب ولا زال يعيش فيه قائلا: أليس القرآن حمّال أوجه؟ قلت: نعم. قال: فهل نغيّر النص القرآني لأن أحد أوجه معانيه لا يتناسب مع الواقع؟
قلت متعجبا: ألهذه الدرجة يكون الجمود على مفردات المؤسس، وتشبيهها بالنص القرآني؟! لا يمكنني ادعاء أن هذا النموذج يمثل فكرا عاما، بل أزعم أن كثيرا من منتسبي الحركات الإسلامية يدركون أهمية التجديد الفكري، لكن إذا ما وصل التجديد إلى مخالفة عبارات المؤسس صار ملكيا أكثر من الملك، ومتشددا لرأي المؤسس أكثر من المؤسس نفسه الذي لو عاش لغيرّه.
هل الفكر معصوم؟
حين أشير لفكر الحركات الإسلامية لا أعني الحديث عن الجوانب الشرعية التي لا لَبْس فيها، فأنا لا أرى الوحي جزءا من الفكر الذي هو بذل الجهد واستفراغ الطاقة العقليَّة والنفسية فيما أفسحه الشرع، وقد يطابق الصواب إذا التزام بالقواعد المنهجية واتصف بالنزاهة والموضوعية، وقد يحتمل الخطأ إذا خالفها، وهو ما لا يخلع على الفكر العصمة لمجرد نسبته للإسلام. إنما أقصد ما هي طبيعة الحركة بداية؟ وما نظرتها للوطن الذي تعيش فيه؟ ورأيها في وضع المرأة وغير المسلم؟ ونظرتها للعمل السياسي والحزبي والعمل المجتمعي؟ أين يقع دور الفن والإعلام عندها؟ ما الرأي في الحرية والشورى والديمقراطية؟ كيف تنظر إلى الواقع دون أفكار مسبقة؟ وما الموقف من السلطة التي تحكمه؟ وبقية فئاته وتجمعاته الدينية والسياسية؟ كيف تري سُنة التدرّج مع الأخذ في الاعتبار بضرورة الإصلاح والتغيير المستمر؟ كيفية الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيِّرات العصر؟ ما نظرتها للانتفاع بتراثنا الغني بما فيه من علوم وفنون وآداب؟ وهل يعتبر هذا التراث كله مقدسا أم هو قابل للتحقيق النقدي والمراجعة والمناقشة والترجيح؟
من لا يتجدد يتبدد:
اقتضت سنة الله استمرار تجدد كل ما في الكون وديمومة تغيره، ولما كان فكر الحركات الإسلامية نتاجا لحيوية أعضائها ومفكريها، فإنه يخضع بدوره لذاك الناموس العام، ناموس التطوّر والتجدد. وتتجدد تلك الحركات ذاتها كلما دأبت على تجديد فكرها، وترقد وتتخلف كلما توقف فكرها وتخلّف.
ولعل أحد أهم أسباب ما تعانيه الأمة من مشكلات مزمنة هو إهمال الفكر، والخوف من النقد، وتجاهل المراجعة، والتهرّب من المتابعة، بينما تعتبر تلك الأربعة مبادئ أساسية في أية منظومة للتغيير والإصلاح والتطّور والارتقاء، على اختلاف مجالات العمل والتطبيق،
والأولى بهذا كل من يحمل مشروع الإصلاح قبل غيره، حتى لا ينه عن خلق وقد تلبس به وأتى مثله. كما لا ينبغي أن يكون التجديد في الأساليب والوسائل فقط، فمهما تطورت ستظل محدودة الكفاءة مالم تنطلق من منهج نقدي مؤصل، وأساس فكري صحيح يسعى لعلاج ما أصاب الفكر الإسلامي من مغالاة أوتفريط أو ركود أو تقليد، ليتمكن من جسر الفجوة بينه وين الواقع. بل ينتقل إلى بلورة مشاريع فكرية جديدة تنطلق من مفهوم بناء الأمة واستنهاضها، والعمل على تأهيلها لاستعادة دورها الحقيقي في الشهود الحضاري، وليس من منطق الوصاية عليها، فيحقق التكامل المرجو شكلا ومضمونا.