أخطر ما يواجه الدول التي تمر بظروف استثنائية صعبة هو التفكير المأزوم لنخبتها السياسية والعسكرية وحتى الفكرية.
هذا التفكير المأزوم ينشأ بسبب الضغوط التي تقع على النخبة جراء ارتباك المشهد وتعقد الظروف، فيجد النخبوي السياسي أو العسكري أو الفكري عقله أمام خيارات محدودة فيتماهى مع الصوت العالي ويندفع صوب النموذج التقليدي ويجنح باتجاه الماضي بعجره وبجره لأنه – في نظره - أقل مأساوية.
الخطأ الكبير لهذا التفكير المأزوم أنه ضعيف الذاكرة و مسموم التوجه بحيث أنه قَبِل بأن الماضي أقل مأساوية مع أن الواقع خلاف ذلك، ومع تغليب حسن الظن نقول بأنه تجاهل العلاقة الوثيقة بين الماضي والحاضر، وأن مأسي اليوم هي نتاج حقبة مريرة من العسف والتجهيل وتكريس قيم الفوضى والتمرد ومحاربة الاستقرار وكره التنظيم والبناء المؤسسي.
من أخطاء التفكير المأزوم أنه أسير الحالة ومتصلب الخيال وضيق التأمل وقاصر في البحث المعمق في تجربة الماضي وتجارب الآخرين ولا يفكر بإبداع خارج الصندوق للوقوف على سبل احتواء الأزمة بشكل يضمن التقدم والانطلاق، بدل العودة إلى الماضي المتخلف.
التفكير المأزوم نتاج تفكير مصلحي ودوافع نفعية شخصية أو فئوية قبلية أو جهوية أو حزبية، وأقل ما يقال فيه أنه بعيد عن الروح الوطنية الجمعية، ولو كان الغالب على التفكير مصلحة البلاد والعباد لما رأيت نماذج لأفكار هدامة ومواقف سيئة أو تعنت وتصلب ودفع باتجاه الهاوية بدل التنازل لأجل أن يستقر الوضع ويرتفع العناء والبلاء عن الناس بسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية الكارثية.
إذا أفلت التفكير المأزوم من الطمع والجشع وغلبة المصلحة الخاصة الفردية أو الفئوية، فإنه يقع أسير الخوف، ويتأثير بالوصف المقلق للوضع المزري والمستقبل المظلم، فتشل خلايا عقل النخبوي ويهتز استقراره الروحي والنفسي وتعلو ضربات قلبه فيعجز عن أن يفكر إلا في نماذج نمطية متخلفة.
التفكير المأزوم يرد على شواهد فشل تجربة عقود ماضية وفساد منظومتها وعجز كوادرها بالهروب إلى مأساوية النموذج الذي ورثه اللاحقون بعرض قائمة بمظاهر الفشل وأوجه الفساد الواقع اليوم، وبالتالي يصبح تبرير الماضي سهلا والعودة إليه من باب الأخذ بأقل الضررين، وليس البحث في أسباب فشل الاثنين والتنقيب في العلاقة بينهما والتفكير في بدائل ابتكارية.
التفكير المأزوم للنخبة السياسية والعسكرية والفكرية يقع فريسة العامل الأمني ويلوث عقولها مفهوم تقليدي تخريبي إفسادي للأمن وسبل تحقيقه، فتجدها تعود للقوالب القديمة، وتفزع للنظريات السابقة متجاهل حقيقة باهرة وهي أن الواقع الذي نعيشه اليوم كانت نتيجة مباشرة لسياسة الكبت والعسف والعنف الرهيب.
التفكير المأزوم يغفل عن الإنسان وقيمته ودوره في الخروج من الأزمة الراهنة وسبل تفجير طاقاته وتفعيل إمكاناته وقدراته عبر قوالب ابتكارية وأجواء تفاعلية حيوية، ويتجه إلى مقاربة الراعي والقطيع، وسياسة الجر بالقوة إلى الحضيرة والعزل بالمتاريس وإطفاء الأضواء حتى يطبق الظلام فيخفت الصخب وتنتهي الضوضاء وتخمد الجلبة، فيهنئ الجميع!!.
من أبرز مظاهر التفكير المهزوم هو استصحاب سياسة التجاهل والقفز عن الواقع وردم الحفر أو إزاحة العقبات بالقوة، وليس مناقشة الأسباب الرئيسة والدوافع الأساسية للمشكلات القائمة أو التداعيات المصاحبة، مما يعني مراكمة الإشكاليات وتعظيم الأزمات فتقود إلى انفجارات كبيرة لاحقا هنا وهناك.
وأخيرا فإن أصحاب التفكير المازوم يختارون أعوانهم ممن يتميزون بالاستجابة المطلقة والتفكير المحدود والتطبيق الحرفي للتوجهات والمتلبسون بالصرامة وحتى العنف تفكيرا وممارسة، فهؤلاء هم الضمانة لتحقيق الاستقرار وفق نظرتهم، وليسوا المتفتحون والإبداعيون الذين لا ينقصهم الحزم في الإدارة والقيادة.