قضايا وآراء

وثيقة حماس.. وهل تتعلم الأم من أبنائها؟!

1300x600
أصدرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) منذ بضعة أيام وثيقة مهمة، قامت فيها بعدد من المراجعات، ولا شك أن الكثيرين من أهل السياسة والطرح الفكري قاموا بمناقشتها، وبخاصة المؤتمر الصحفي الذي عقد في الدوحة.

وقد ألقى فيه الوثيقة ورد على أسئلة الحاضرين في الدوحة وغزة أبو الوليد خالد مشعل، لكن أمرا مهما لم يتوقف أمامه الكثيرون، إلا لماما، وهو إعلان الحركة: أن المعركة بيننا وبين الصهاينة، ليست لأنهم يهود، بل لأنهم قاموا باحتلال فلسطين، وما تبع هذا الاحتلال من اعتداءات، فالمعركة لعلة الاعتداء.

وقد كانت الثقافة السائدة في أدبيات الحركة الإسلامية بوجه عام، هي أن المعركة مع اليهود بوجه عام، وكان الخطاب في الخطب والمواعظ، والكتابات الدعوية ينحو هذا النحو، لكن ما يذكر من باب التأريخ لهذا التحول الفكري والفقهي.

فقد كان أول من نبه لذلك، وامتلك الشجاعة لإعلانه، ومخالفة التوجه العام: هو العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، فقد كان مجمل رأيه الذي أعلنه في أكثر من موضع، وبخاصة في كتابه (القدس قضية كل مسلم) وفي محاضرات مختلفة، كان يقول: ليست المعركة بيننا وبين اليهود بوصفهم يهودا، بل بوصفهم معتدين، فليس في الإسلام حرب دينية على أساس دين المخالف.

وأسهب القرضاوي في عرض هذه الفكرة أكثر في موسوعته (فقه الجهاد) في الجزء الأول منها، ورد على كل النصوص التي تجعل القتال لعلة الكفر، وهو رأي جمهور الفقهاء والعلماء، وكان عمدته جل نصوص القتال في القرآن الكريم والتي تبين أنه مرهون بالاعتداء، يقول تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة: 190، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم"، فالقتال هنا مرتبط بموقف الآخر منا، هل يوادعنا ويهادننا، أم يحاربنا ويعتدي على حرماتنا ومقدساتنا. 

وقد بين في فصل خاص في كتابه، بعنوان "القتال الداخلي بين المسلمين"، وذلك عند حديثه عن الطائفة التي تبغي على أخرى، في قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات: 9، فلو كان القتال لعلة الكفر، فهنا وجب رد البغاة المعتدين وهم مسلمون. فالقتال في الإسلام بوجه عام مرهون بالاعتداء، وليس لعلة المخالفة الدينية، وقد عاش اليهود في ظل الحضارة الإسلامية عندما طاردتهم أوربا، ولم يجدوا ملجأ ولا ملاذا إلا في حمى الإسلام والمسلمين. 

وهنا ملمح مهم، وهو عودة حماس كحركة إسلامية، إلى رأي الفقيه، لا التمسك بما شاع على ألسنة الوعاظ والدعاة على فضلهم، فقد كانت هناك خطب ومحاضرات يلقيها دعاة أفاضل في المجال السياسي والفكري، لكنها رسخت لنظرة ليس قائمة على فقه صحيح، نحو الآخر، وتصوير المعركة تصويرا غير دقيق، وهناك نماذج كثيرة غير هذا النموذج لكن وثيقة حماس جعلتنا نهتم بإبرازه، وتوضيحه.

وعندما تعيد الحركة الإسلامية للفقيه فيها مكانته، وفي قراراتها، وفي مقرراتها العلمية، سترشد حركتها، وعندما يتصدر خطابها الواعظ والداعية، متخليا عن ميزان الفقيه، فستقع في كوارث لا أول لها من آخر، ليس ذلك تقليلا من شأن الواعظ أو الداعية، لكن لكل مساحته، وعلى الداعية والواعظ أن يعرف حدود توجيهه.

فالوعظ وترقيق القلوب، وهداية الناس، شيء مهم، لكن تناول الأحكام الفقهية ذات الطابع السياسي والفكري، وإعطاء رأي علمي فيها، يختلف تماما، والناس عامة لا تحسن التفرقة بين الداعية والفقيه، وهو أمر مقبول منهم، لكنه ليس مقبولا من حركة إسلامية كبرى لها تاريخها، وعمقها التاريخي كالإخوان المسلمين، أن يتصدر خطابها، أو إصدار الأحكام والرؤى فيها أهل الوعظ، هذا فضلا عن أن يتصدر الوعظ والرأي فيها الأطباء والمهندسون، وبينهم وبين البحث العلمي والفكري مراحل، لم يجتازوها بعد. 

وإذا كان هذا حديثنا عن حماس، بما فيها من رشد ومراجعة، فما بالنا بالحديث عن الحركة الأم في مصر؟ فهل تتعلم الأم من أبنائها، وتعي الدرس جيدا، وتعرف كيف يكون التفكير والمراجعة، وألا تستنكف عن ذلك؟ فالذي يرصده كل منصف ودارس أن قادتها (خاصة الموصوفة بالتاريخية) بينها والرشد السياسي والفقهي ما بين الأرض والسماء!!