"نتيجة تظهر مدى الانقسام في المجتمع التركي".. عبارة اختارتها الدبلوماسية الأوروبية بعناية للتعليق على نتائج استفتاء التعديلات الدستورية التركية التي أظهرت تأييد غالبية الأتراك لهذه الخطوة بنسبة بلغت 51.40 بالمائة.
فبعد أشهر من الشد والجذب بين أنقرة وبروكسل على خلفية الاستفتاء كفكرة، والإجراءات التي أقدمت عليها دول أوروبية ضد الجاليات التركية، تأتي نتيجة الاستفتاء بتأييد التعديلات لتشكل انعطافة جديدة في العلاقات الأوروبية التركية ولتطرح تساؤل: هل ما بعد الاستفتاء كما قبله؟
في ردة الفعل الأولية على نتائج الاستفتاء، حرص المسؤولون الأوروبيون على انتقاء لغة مواربة، على الرغم من التشكيك الذي بدأته أحزاب المعارضة لنتائج الاستفتاء حتى قبل اتضاح الصورة بساعات، وصولا للإعلان لاحقا عن رفضها والطعن في نتائجها.
الموقف الأوروبي لم يتأخر الأتراك في الرد عليه، بدءا من رئيس الجمهورية الذي قال لهم "اعرفوا حدودكم"، ملوحا باستفتاء على تعليق مفاوضات عضوية بلاده بلاتحاد الأوروبي، بينما نددت الخارجية التركية بـ"الخلاصات المنحازة" لبعثة المراقبين التابعين لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا ومجلس أوروبا واعتبرتها مسيسة وتكشف عن مقاربة منحازة.
ألمانيا التي ينظر لها كمركز للدبلوماسية الأوروبية ويعيش فيها أكبر جالية تركية في أوروبا، بحثت جيدا لإيجاد نقطة ارتكاز للحديث عن نتيجة الاستفتاء، وقالت إن "النتائج المتقاربة للاستفتاء بشأن تعزيز سلطات الرئيس أردوغان تضع على عاتقه مسؤولية كبيرة وتظهر مدى انقسام المجتمع التركي"، وقالت المستشارة الألمانية ووزير خارجيتها إنه "يتعين على السلطات التركية تهدئة المخاوف بشأن مضمون الاستفتاء وإجراءاته التي أثارتها لجنة من الخبراء القانونيين الأوروبيين".
ورغم أن البيان الصادر عنهما أكد أن "الحكومة الألمانية تحترم حق المواطنين الأتراك في اتخاذ قرار بشأن نظامهم الدستوري"، إلا أنه اعتبر "نتيجة الاستفتاء المتقاربة تظهر عمق الانقسام في المجتمع"، داعيا أنقرة إلى إجراء "حوار محترم مع كل أطياف المجتمع التركي".
أما فرنسا التي طالما وُصفت بأنها من أشد معارضي انضمام تركيا إلى النادي الأوروبي، فاعتمدت على لسان رئيسها فرانسوا أولاند ما ذهبت إليه برلين بالقول: "يتوقف الأمر على الأتراك وحدهم لاتخاذ قرار بشأن كيفية تنظيم مؤسساتهم السياسية لكن النتائج تظهر أن المجتمع التركي منقسم بشأن الإصلاحات الواسعة المقررة".
بدورها وجدت النمسا في نتيجة الاستفتاء ضالتها للبرهنة على موقفها من تركيا، حيث اعتبر وزير خارجيتها سيباستيان كورز أن "الاستفتاء التركي على تعزيز سلطات الرئيس رجب طيب أردوغان يجب أن يقود الاتحاد الأوروبي إلى التعامل بصراحة مع هذه المسألة ووقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد".
أمام هذه المواقف تطرح تساؤلات عن شكل العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، لا سيما مع وجود ملفات كبيرة عالقة بين الطرفين في مقدمتها مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بالإضافة لملف المهاجرين واتفاق التبادل بين الطرفين الذي تلوح أنقرة بين الحين والآخر بالتحلل منه.
عن هذا الأمر يتحدث الخبير بالشؤون الأوروبية من النمسا حسام شاكر لـ"عربي21"، لافتا في البداية إلى أن الأوروبيين كانوا يتوقعون حسم الحزب الحاكم جولة الاستفتاء على التعديلات الدستورية لصالح، "لكن المراهنة كانت على النسبة التي سيحققها".
ويرى شاكر أن أوروبا كانت جزءا من حملة الاستفتاء إذ أن "أطرافا معينة في الاتحاد الأوروبي ألقت بثقلها في التأثير على نتيجة الاستفتاء عبر ما يشبه حملات سياسية وتعبئة واضحة كنوع من الرسائل التي التقطها المستوى السياسي التركي".
ويشير شاكر إلى أن أوروبا كانت مشاركة في حملات الاستفتاء من خلال حكومات كما هو الحال في هولندا وسويسرا والنمسا، أو من خلال سلطات محلية كما في ألمانيا، حيث دفعت هذه الجهات باتجاه الكفة القائلين بـ"بلا" ضد التعديلات الدستورية.
ويحلل شاكر الخطاب الأوروبي بشأن نتيجة الاستفتاء على أنه "تعبير عن الحذر مما كان متوقعا"، ويوضح قائلا: "الأوروبيون يريدون القول بأننا تلقينا النتائج وليس لدينا تشكيك جوهري فيها، لكننا ننظر بقلق إلى الأجواء الناتجة عنها أو أننا سوف نتابع ما سيترتب عليها".
ويضيف: "أوروبا الآن لا تريد القول بأن الاستفتاء غير شرعي، ولكن في المقابل هي غير مرتاحة لمجمل الاستفتاء ونتيجته، وتتبع حاليا سياسية الإمساك بالعصا من المنتصف، لأنها تدرك في النهاية أنها معنية بشراكة بدرجة ما مع تركيا".
ويتابع الخبير شاكر: "أوروبا تحذر من أن تسقط تركيا في قبضة حلفاء آخرين كأن تقترب أكثر من الشرق الإسلامي أو روسيا على حسابها، والانتقادات التي تصدر عنها لا تعني أنها ترغب بالتضحية بعلاقتها مع تركيا وبالقيمة الإستراتيجية لها".
وعن شكل السلوك الأوروبي حاليا ومستقبلا مع نتيجة الاستفتاء على التعديلات، يرى شاكر أن الأوروبيين يراهنون على "أولا مراقبة السلوك التركي بعد هذه النتيجة، وثانيا الاعتراف ضمنا بالأمر الواقع الذي كرسه الاستفتاء، وثالثا التركيز على اعتبار أن الشعب التركي لم يصوت لصالح التعديلات بل اعتبار أن هناك انقساما في تركيا حول هذه النتيجة".
وعن تفسيره لتركيز الأوروبيين في خطابهم على مسألة "الانقسام في المجتمع التركي" في حين أن النسبة التي حصلت عليها التعديلات الدستورية تشبه النسب في محطات انتخابية مختلفة حول العالم، يرى شاكر أن موضوع قيم التنافس الديمقراطي غالبا ما تأتي في سياقات انتقائية وشعاراتية، فـ"عندنا مثال حاضر في السنة الماضية عندما صوت البريطانيون على الخروج من الاتحاد الأوروبي بنسبة قريبة جدا من نسبة الاستفتاء التركي، ورغم وجود كثير من التشنج والمعلومات المغلوطة والتضليل لقطاعات من الناس بشأن مبررات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يشكك أحد في عملية التصويت بلذاتها".
ويذهب شاكر إلى أبعد من ذلك، إذ يرى أن ثمة رسالة تحذير يريد الأوروبيون إيصالها للرئيس أردوغان بالتركيز غلى قضية الانقسام في المجتمع مفادها أنه "انتبه يا أردوغان فليس كل الشعب معك"، متابعا: "حتى لو كانت النتيجة في الاستفتاء كاسحة كانت ستقدّم حججا أخرى كأن يقال إنه أجري في مناخ شعبوي".
ويخلص الخبير في الشؤون الأوروبية إلى أنه أصبح من الواضح أن أوروبا غير مرتاحة الآن لنتيجة هذا الاستفتاء وفي هذا التوقيت تحديدا "فهي لا تريد عمليا قيادة قوية في تركيا وقد اعتادت على حكومات تركية ضعيفة ومفككة مع استقرار داخلي، والآن جاءتها قيادة ترسم هواجس في مخيلتها حول تركيا قوية تتصرف بشكل مستقل في العالم".
ويشير إلى أن مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد عالقة منذ زمن طويل وتتضاءل يوما بعد يوم، والكل يدرك ذلك لكنهم لا يريدون إغلاق الباب بشكل كامل، إضافة إلى أنه تطرح أفكار الآن عن واقعية استمرار الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد".
ويختم شاكر حديثه بالقول إن ثمة حسابات متفاوتة لدى الجانب الأوروبي تجاه هذه المسألة ولا وجود لموقف واحد، على الرغم من أن ألمانيا هي الدولة الوحيدة حاليا التي تتحمل المسؤولية وتتصرف بشيء من الاتزان بينما تتصرف دول الأخرى بشكل متشنج، خاصة بعد ثبوت أن تركيا أظهرت قابلية للاستفزاز وهو ما ظهر في الفترة الماضية والذي يتطلب مقاربة جديدة من الجانب التركي.