طقس تاريخي، بعضهم يرجعه للعهد الفرعوني، وأقلية تضفي عليه صبغة دينية، لكنه بكل الأحوال، لا تخلو موائد
المصريين في أيام نيسان/ أبريل سنويا، تحديدا يوم "
شم النسيم" من أسماك الرنجة المملحة، والبوري المعتق "الفسيخ" والملوحة، والبيض الملون.
لكن كثيرا من المصريين سيضطرون للتخلي عن جزء من وجبتهم التقليدية تلك، التي ستلتهم الأزمة الاقتصادية منها هذا العام، حصة لا بأس بها.
ويتزامن شم النسيم مع احتفال المسحيين المصريين بذكرى دخول السيد المسيح أورشيلم القدس، وانتهاء أيام الصوم الكبير التي تمتد لـ55 يوما، لكن "العيد" أقدم هنا إذ اعتاد المصريون الاحتفال بشم النسيم منذ ما يقرب من 5 آلاف عام، كما تقول جداريات فرعونية، وكانوا يحيون اليوم بتقديم الرجال زهرة "اللوتس" لنسائهم.
طقوس الربيع
روائح الأسماك هنا أكثر انتشارا تملأ أنوف المارة في نيسان/ أبريل، أكثر من غيره من الشهور، وتبدو شوارع العاصمة "القاهرة" أكثر استعدادا لاستقبال "شم النسيم".
المحتشدون أمام المحال التي تبيع صنوف الغذاء الطقسية لهذه الفترة، يتبادلون التهاني، لكن حركة البيع تشهد تراجعا نسبيا في 2017.
وتسببت الأوضاع الاقتصادية في تراجع نسبة المبيعات المرتبطة بشم النسيم هذا العام، إلا أنها لم تنقطع، فكما تقول هدى محمد، (ربة منزل تعيش بمنطقة الدقي غرب القاهرة) "لا يمكن الاستغناء عن هذه العادة التاريخية".
وأضافت: "لا بد أن تحتوي السفرة الفسيخ والرنجة والبصل"، هكذا أكدت ارتباط أسرتها بمأكولات الربيع، إلا أنها تشير إلى تراجع الكميات التي اعتادت على شرائها سنويا.
في العام الماضي، اشترت السيدة 3 كيلوغرامات من أسماك الرنجة، واثنين من الفسيخ، لأسرتها المكونة من ستة أفراد، وكانت التكلفة تصل لـ250 جنيها، (13 دولارا أمريكيا) لكن هذا المبلغ، لن يكفي لشراء نصف الكمية حاليا.
وتلفت هدى إلى موضع آخر طالته نيران الأسعار، فهي ستقضي "شم النسيم" هذا العام بمنزلها بعدما ارتفعت أسعار رسوم دخول الحدائق والمتنزهات العامة، وكانت تعتاد الذهاب وأسرتها لحديقة الجزيرة المطلة على نهر النيل بقلب العاصمة.
وقالت: "كانت تكلفة الخروج للحدائق يوم شم النسيم تقترب من 100 جنيه للأسرة (نحو ستة دولارات)، لكن هذه المرة لن تكفي ثلاثة أضعاف هذا المبلغ".
ويبلغ متوسط الدخل السنوي للأسرة في مصر 44.2 ألف جنيه ( 2450 دولارا) في عام 2015، بحسب إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء صدرت في تموز/يوليو الماضي.
انقلاب ربيعي
وقديما حدد المصريون
أعياد الربيع بالتزامن مع ظاهرة فلكية كانوا يسمونها بالانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل مع النهار، ويقع في 25 من شهر "برمهات" أحد الشهور القبطية القديمة، ويتزامن مع أواخر آذار/ مارس، ومطلع نيسان/أبريل، لكن الانقلاب هذه المرة كان في "الأسعار أيضا" كما يقول محمود السيد (35 عاما) موظف بشركة قطاع خاص مصرية.
وأشار محمود إلى أن أسعار المنتجات المرتبطة بشم النسيم ارتفعت بشكل جنوني، فزادت أسعار بعض السلع 30 جنيها في الكيلو الواحد (دولار و50 سنتا تقريبا).
وقال: "العام الماضي اشتريت كيلو الرنجة بـ25 جنيها، أو 30، لكن هذا العام وصل لـ50 جنيها، وزادت أسعار الفسيخ الضعف أيضا"، وهو ما أثر على الكميات التي كان ينوي شراءها.
لا تتوقف طقوس المصريين عند أكل السمك المملح، فيحرص محمود السيد على إحضار البيض لأطفاله لتلوينه في يوم شم النسيم طقسا تقليديا واسع الانتشار، لكن البيض هو الآخر لم ينج من الاحتراق بنار الأسعار، وارتفع سعر الطبق الذي يحوي 30 بيضة لـ36 جنيها، بعدما كان ثمنه 18 جنيها في العام الماضي (دولار واحد).
لكن محمد لبيب، صاحب محل لبيع الفسيخ والرنجة، يرجع زيادة الأسعار لقلة بعض الأسماك، خصوصا البوري، الذي يصنع منه الفسيخ، وتسبب تصديرها في ارتفاع سعر الفسيخ من 80 جنيها العام الماضي إلى 120 جنيها هذا العام.
وأضاف أن الزيادة تقريبا حوالي 40 في المئة، لكل المنتجات المرتبطة بأعياد الربيع.
وأكد أن سعر أسماك الرنجة ارتفع أيضا، لأنها تستورد من الخارج، وتسبب قرار تحرير سعر صرف الجنيه (المصري أمام العملات الأجنبية الذي اتخذته الحكومة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي خريف 2016)، في رفع سعرها.
وأشار إلى أن أسعار "الفسيخ والملوحة والسردين" ارتفعت أيضا، ووصل الأول لما بين 120 و140 جنيها، والرنجة 50 جنيها، والسردين 60 جنيها، والملوحة تتراوح ما بين 100 و150 جنيها.
الدولار سرق الفرحة
ولم تختلف التفسيرات الرسمية لارتفاع الأسعار عما قاله الزبائن والتجار، فيقول طارق فهمي عضو الغرفة التجارية لصناعة الأسماك، إن تراجع المعروض من السمك تسبب في ارتفاع الأسعار، وتأثر السوق المصري بارتفاع الدولار خلال الفترة الأخيرة.
وأضاف أن جميع أنواع السمك تأثرت، فارتفعت أسماك البوري، وهي التي يصنع منها الفسيخ لـ60 جنيها قبل تجهيزه، وهو ما تسبب في وصول الكيلو منه لـ120جنيها، ومن المتوقع زيادة السعر كلما اقترب موعد شم النسيم، الذي سيحل الاثنين المقبل.
ارتفاع الأسعار أثر على بيوت التجار لا المواطنين فقط، إذ قال فهمي: "أنا كمصري محسوب على الطبقة المتوسطة مضطر لتقليل النسبة التي كنت أشتريها لأسرتي سنويا في مثل هذه الأيام".
ونوّه عضو الغرفة التجارية إلى أنه كان يشترى ثلاثة كيلوغرامات من أسماك الفسيخ لأسرته، واثنين من الرنجة، لكنه سيكتفي بكيلوغرام واحد من كل صنف هذه المرة.
وفسر فهمي ارتفاع الأسعار لأكثر من الضعف مقارنة بالعام الماضي، بسبب ارتفاع قيمة الدولار مقابل الجنيه، وهو ما جعل عددا من التجار يتجهون للتصدير بسبب فرق العملة، وأثر ذلك سلبا في السوق المحلية.
ونفى فهمي وجود احتكارات تسببت في رفع الأسعار، مشيرا إلى أن الأسماك بوجه عام سلعة لا يمكن احتكارها لأنها يومية، وإذا تأخرت لدى التجار سيضطرون لبيعها بنصف الثمن.
وعن حجم ما تنفقه الأسر المصرية على الأسماك والأطعمة المتعلقة بأعياد الربيع يؤكد فهمي أنه لا توجد إحصائية دقيقة لذلك، إلا أن الرقم بمليارات الجنيهات سنويا.
ضريبة القيمة المضافة
ويتفق معه الخبير الاقتصادي أبو بكر الديب، في أن الدولار هو سبب ارتفاع أسعار السلع المرتبطة بأعياد الربيع، إلا أنه يضيف سببا آخر وهو فرض ضريبة القيمة المضافة، التي أقرها البرلمان في 29 آب/ أغسطس الماضي، التي تنص على فرض ضريبة بقيمة 13 في المئة على غالبية السلع الموجودة بالسوق المصرية، ومن ضمنها الأسماك.
وذهب الديب إلى أن عملية تحرير سعر الصرف تسببت في رفع أسعار كل السلع والخدمات بداية من أجر النقل وأسعار الوقود، لسعر المنتج نفسه.
وعلى الرغم من إقدام الحكومة على تخفيض أسعار الدولار الجمركي، وتثبيته عند 16.5 جنيها، لتقليل الأسعار في الداخل إلا أن ذلك غير كاف، بحسب الديب، لأن أسعاره بالبنوك والسوق السوداء لا تزال مرتفعة.
وأشار الديب إلى أن المصريين يستهلكون سلعا تتعدى قيمتها 20 مليار جنيه سنويا خلال احتفالات عيد الربيع (إحصائية لم يتسن الحصول على رقم رسمي يؤكدها)، وربما يزيد الرقم بعض الشيء هذا العام بسبب ارتفاع معدلات التضخم لتصل 30.3 في المئة إضافة لتراجع قيمة مدخرات المصريين.
العصر القديم
وتاريخيا عادة الاحتفال بأعياد الربيع تليدة في مصر، فكان المصري القديم يبدؤها في مهرجان شعبي مع طلوع شمس اليوم، وهو مازال موجودا حتى الآن، لكنه تحول لخروج الأسر للمتنزهات والحدائق العامة، واصطحاب الأطفال لحدائق الحيوان، وتلوين البيض وتجهيز الرنجة والفسيخ والبصل والسردين والليمون، وغيرها من أطعمة شم النسيم.
وترجع تسمية اليوم بـ"شم النسيم" لما أطلق الفراعنة على هذه الاحتفالية "عيد شموش" أي بعث الحياة، وحرِّف الاسم في العصر القبطي إلى اسم "شم"، وأضيفت إليه كلمة النسيم نسبة إلى نسمة الربيع التي تعلن وصوله ضاحكا، حتى وإن حاولت أزمة الاقتصاد سرقة الفرحة.