كتاب عربي 21

طويل الجرح يُغري بالتناسي

جعفر عباس
1300x600
1300x600
ما زالت قضية فلسطين هي قضية العرب "المركزية"، ولكن فقط على مستوى الخطب والبيانات المشتركة، التي يصدرها القادة العرب كلما التقوا بالجملة أو المفرّق، فقد صار الاهتمام بها فرض كفاية: إذا اهتم بها البعض، لا تثريب على الباقين إن نسوا أمرها، فالعرب يحبون "الآكشن"، وهو في لغة التلفزيون والسينما الحركة المصحوبة ببعض العنف والكر والفر، كما يحبون المسلسلات التلفزيونية، ولم يعد الإنتاج المحلي يكفيهم، فصاروا يستوردونها من المكسيك والهند وتركيا، ويا تعس الشباب من الجنسين، الذين لم يتزوجوا بعد، فقد صار مهند ونور التركيان معيارين للشريك المثالي في بيت الزوجية، وهناك حكاية متداولة عن كويتي طلق زوجته لأنه وجد صورة مهند على شاشة هاتف زوجته.

وفلسطين بشقيها المحتل والمختل، لم تعد مسرحا لأي نوع من الحركة، ورغم أنها لم تشهد على مدى عقود طويلة إلا "حركات" متقطعة، إلا أن عدم وجود قضية أخرى "تستأهل"، حمل العرب على جعلها مقطعا ثابتاً في مواويلهم السياسية طوال تلك العقود، ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، صارت المنطقة العربية مسرحا لمسلسلات "آكشن" من العيار الثقيل، فاختفت فلسطين حتى من الأدب الشفاهي، بل لم نعد نسمع من على منابر المساجد الدعاء بأن يجعل الله أموال اليهود غنيمة، ونساءهم سبيا لنا.

أحوال مصر قبل عام 2011 كانت جديرة بالرصد والاهتمام، ولكنها كانت رتيبة، تشبه أحوال العديد من الدول في محيطها، ولكن ما إن انفجرت ثورة يناير وأطاحت بالفرعون قبل الأخير، حتى صارت مصر قطب المغناطيس الموجب الذي يشد الأقطاب السالبة من حولها، وتوالت مسلسلات "الآكشن"، فصار العرب مشدودين إلى شاشات التلفزة يقفزون من واحدة إلى أخرى منتشين بأحداث أكثر تشويقا، لأنها أدت إلى نتائج من نوع أو آخر بعكس فلسطين، التي ظلت مسرحا راكدا، بانتظار أن ترسل السماء على إسرائيل شهابا رصدا.

الثورة التونسية، رائدة الانتفاضات العربية، لم تشد "المشاهد" العربي لأكثر من أسبوع، وهي المدة التي حفلت بعناصر التشويق، ثم ظهر على الساحة السياسية التونسية قياديون "دمهم تقيل"، لا يفعلون شيئا سوى الحوار والمصالحات وصوغ الحلول الوسطى، التي أدت إلى تهدئة الأحوال وتحقيق استقرار لا تنعم به حتى البلاد العربية التي لم تشهد هبّات شعبية، وبهذا تحول التخلص من الحكم الديكتاتوري في تونس في يناير 2011، إلى ثورة "أي كلام"، لانعدام "الآكشن" والإثارة.

ثم اشتعلت ليبيا بـ"آكشن" جعل خوارق رامبو تبدو كبطولات القط توم في مواجهة الفار جيري، وعرف العرب بالزنتان والزاوية ومصراته وسرت، ولكن ما أن هلك "الخائن" وكبار جلاديه في هذا المسلسل، وصار "الآكشن" بين أهل أقاليم ثلاثة أو أربعة، حتى انفض الناس عن المسرح الليبي، لأن وتيرة الحلقة الثانية من "الآكشن" كانت رتيبة ومتقطعة، ولأن مسارح أخرى صارت جديرة بالارتياد والمشاهدة.

فما إن خفتت الأضواء في الشمال الأفريقي، حتى انبهر الناس بأضواء الفوسفور والنابالم في المسرح السوري، الذي شهد أحداثا عجز خيال هيتشكوك – مبدع مسرح الرعب الهوليوودي – على الإتيان بشيء يقاربها بأي درجة، وبلغت الدراما السورية ذروتها بدك حلب وحصارها وتجويع أهلها، وحاول جمهور المشاهدين الإسهام في ذلك العمل الدرامي، بالموسيقى التصويرية (النواح والسباب ومناشدة الغرب الكافر أن يفعل شيئا لإقالة عثرة الحلبيين)، ثم افتقد المسرح السوري عنصر التشويق، بدخول ممثلين روس وأمريكان وأتراك، فتحول "الآكشن" إلى بانتومايم (دراما صامتة).

ولكن "داعش" قامت بتسخين ساحة الفعل الدرامي، في كل من سوريا والعراق، حتى صارت لها "دولة"، سرعان ما مدت أذرعها إلى عدد من المدن الأوربية، ومن المشاعر ما تدعدش وانتعش، ومنها ما تقزز وانكمش، ولكن ما أن دخل جيش العراق حامي بوابة العرب الشرقية يوما ما، من غلواء "الرافضة"، حتى تباطأ إيقاع "الآكشن"، ولم يعد الجمهور العربي يأبه لتحرير أو تدمير الموصل، لأنه لم يعد يعرف ما إذا كان من الخير لها أن تظل "متدعدشة"، أو أن تصبح متحشدة بالوقوع تحت سنابك الحشد الشعبي، الذي تم تكليفه بمحاربة الأمويين.

هل تذكرون توكل كرمان؟ التي فازت بجائزة نوبل للسلام؟ نعم، تلك الشابة التي كانت وجه الثورة اليمنية في وجه الطاغوت علي عبد الله طالح؟ أنت معذور إذا نسيت أمرها وأمر الثورة اليمنية، لأنها دخلت عامها السادس، ولم نعد نعرف عما يدور في اليمن من "آكشن" إلا من البيانات الرسمية.

نحن قوم ملولون، وقال حكماؤنا إنه إذا استطال الجرح، فإن الناس يميلون إلى نسيانه، وهكذا راحت فيها "القضية المصيرية"، وسقطت ليبيا واليمن من الذاكرة العربية، وحتى أحداث سوريا التي تحظى ببعض المتابعة، يكتفي الناس بسماع طراطيش كلام عنها عبر وسائل الإعلام، وكان يوم الأربعاء الماضي (8 آذار/ مارس) الجاري استراحة لملايين العرب من وجع القلب، لأنهم انشغلوا بيوم المرأة العالمي: هذا يمدح وذاك يقدح، وبحمد الله لم يستمر التلاسن حول ذلك "اليوم" لأكثر من أسبوع، ولم يؤد إلى انتفاضة نسائية.
0
التعليقات (0)