تمثل قضية لاعب كرة القدم الأشهر عربيا ومصريا "محمد أبو تريكة" علامة مهمة وحالة خصبة للدراسة والتأمل والقراءة بسبب تحولها من ظاهرة مصرية إلى ظاهرة عربية، مرتبطة ارتباطا وثيقا بالربيع العربي وبالمجرى العام للثورات المتصلة به. يعجز الرجل ـ الرمز في بلده وفي الوطن العربي ـ عن دخول مصر ومسقط رأسه، في المقابل تقوم دولة قطر باستضافة النجم العربي وفيها يتقبل عزاءه بوالده.
مصر قلب المنطقة العربية بخزان بشري هائل يتجاوز مائة مليون نسمة، وهي تمثل بمواردها الطبيعية والاقتصادية محركا من محركات النهضة العربية، لكنها تقع منذ عقود تحت سطوة الفساد والاستعمار العسكري بشكل أخرجها من المعادلة الإقليمية، وجعلها عالة على المعونات الخارجية الخليجية والأمريكية. قطر دولة عربية صغيرة جغرافيا وسكانيا لكنها في المقابل دولة نموذجية فريدة، حققت في فترة زمنية وجيزة ما عجزت عنه الدول العربية الثقيلة، مما جلب لها عداء المنظومات الاستبدادية وهو عداء ترجم في حملات إعلامية ودبلوماسية شرسة؛ خاصة بسبب رفض الدوحة الوقوف مع المشاريع الانقلابية واصطفافها إلى جانب رغبة الشعوب في الانعتاق والتغيير.
بين هذين النموذجين المتناقضين للدولة العربية المعاصرة، تقع حالة " أبو تريكة " لتعبر من ناحية أولى عن مدى الفساد والقمع الذي بلغه الانقلاب المصري على إرادة الشعب، ولتشير من ناحية ثانية إلى أحد الأسباب العميقة التي تفسر الحرب المعلنة عربيا ودوليا على الدور النموذجي لدولة قطر خلال السنوات الأخيرة. حالة الرياضي المصري بين دولته الأم التي ترفض حضوره عزاءَ والده وتهدده بالاعتقال والسجن والتعذيب، وبين دولة عربية أخرى تستضيفه على أرضها وتكرمه، هي حالة تكشف قيمة الإنسان العربي بين منوالين متناقضين، يقف الاستبداد والإجرام العسكري على الطرف الأبرز.
توفي يوم الأحد 26 فبراير والد لاعب كرة القدم المصري الجنسية "محمد أبو تريكة" بعد صراع طويل مع المرض، وعجز ابنه عن زيارته بسبب الأحكام الصادرة عن سلطة الانقلاب ضده بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي انقلب عليها المجلس العسكري خلال صيف 2013 وأحرق أنصارها في الشوارع أمام أعين العالم.
لم يستطع الابن حضور جنازة أبيه بكل ما يحمله الحضور من رمزية ومن قيمة عاطفية ووجدانية للابن، الذي قدّم الكثير لبلده وللعرب جميعا؛ لا عبر موهبته الرياضية بل أساسا عبر التزامه بقضايا أمته وشعبه، وخاصة نصرته للقضية الفلسطينية ورفضه الانقلاب على الشرعية وإراقة دماء المصريين في انقلاب العسكر الوحشي.
مصر العسكر الواقعة تحت سطوة واحدة من أشرس الأنظمة القمعية في التاريخ العربي الحديث، ترفض استقبال أنصع وجوهها الرياضية وأكثر سفرائها احتراما في محيطه العربي والدولي، لكنها في المقابل سمحت لنجل الداعم الأول للانقلاب وكاتب خطابه "محمد حسنين هيكل" بحضور جنازة والده، رغم صدور أحكام قضائية ضده بسبب الفساد واختلاس المال العام.
مصر الانقلاب تكرّم كل الفنانين والرياضيين والكتاب والشعراء ورجال الدين الذين باركوه وصفقوا لذبح إخوانهم في الوطن، بل وشجعوا كل أنواع القتل والقنص لمن خرج مدافعا عن الشرعية وعن خيار الشعب المصري.
مصر الانقلاب نفسها تطارد كل من رفض الانقلاب وكل من ندد بالقتل والتعذيب والقنص والاعتقال والاغتصاب، بل تمنعه من دخول بلاده وتستولي على أمواله وتطارد أهله وأصحابه، فتمارس كل أنواع الإرهاب من أجل فرض الفساد والظلم بالقوة الغاشمة، والتمكين لعصابة من العسكر بالتحكم في رقاب ملايين المصرين وفي مصير أبنائهم.
هذه الممارسات هي في الحقيقة لا تتناقض مع طبيعة النظام الانقلابي ومع جوهره ووظيفته التي جاء من أجلها؛ فالانقلاب العسكري جاء من أجل مصادرة الحريات ومن أجل إرهاب المواطنين، ومن أجل ترسيخ الوصاية الاستعمارية على أرض مصر، التي تعود جذورها إلى انقلاب الطاغية الأول عبد الناصر على الملكية في مصر.
النظام العسكري المصري يمارس اليوم دوره الوظيفي على أحسن وجه؛ بإغراق الدولة في الفساد وفي التخلف من أجل الوصول بها إلى نقطة اللاعودة، التي تؤدي إلى تحلل الوطن وسقوطه في براثن الحروب الأهلية والصراعات التي لا تنتهي، مثلما هو الحال في أماكن أخرى من الوطن العربي.
تنهض هذه الممارسات ـالتي تشكل حالة اللاعب المشهور أبو تريكة واحدة من أبرز نماذجهاـ بوظيفتين أساسيتين بالنسبة للعقل الانقلابي: تتمثل الأولى في اختبار ردود الأفعال الشعبية على منع لاعب شهير من دخول بلده عبر التهديد باعتقاله ومحاكمته؛ لأن صمت الناس داّل على قبولهم بالأمر الواقع أو على عجزهم عن مناهضته. وتتمثل الوظيفة الثانية في توجيه رسائل ضمنية لمناصري ثورة يناير، بأنه لا صوت يعلو على صوت الانقلاب، وأنّ يد العسكر قادرة على أن تطال كل المصريين مهما علا شأنهم واشتهروا بين الناس.
هكذا يُتم العقل الانقلابي دورته المعتادة التي دأب على رسمها منذ عقود على سطح الرقعة العربية، منذ انقلابات القومجيين العرب في العراق وسوريا وليبيا ومصر، التي لم تخلّف غير الخراب والدمار والموت والإرهاب والحروب الطائفية.
بناء على ذلك يكون الفعل القطري متحركا في الاتجاه المخالف للفعل الانقلابي. فبقطع النظر عن كل الأكاذيب التي نشرها إعلام العسكر عن دولة قطر، التي زكّتها كل المنصات الاستبدادية المرتبطة بالثورات المضادة في تونس وليبيا والعراق وسوريا، يشكل الدور القطري كابوسا حقيقيا للمنوالات الانقلابية والاستبدادية في المنطقة وذلك لسببن أساسيين.
أمام الأول فيتمثل في قبول الدوحة بكل المعارضين من المطاردين والمطرودين من أوطانهم على أرضها، مما يشكل استثناء عربيا مزعجا للمنطق الاستبدادي، وهو تصرف يجعل من هذا الفعل متصادما مع الفعل الانقلابي ومعارضا له، بشكل دفع الأبواق الانقلابية إلى تحفيز حملاتها الإعلامية للنيل من الدولة ومن هياكلها، وهو ما أتقنته القنوات الإعلامية المصرية منذ الانقلاب. أما السبب الثاني فيتمثل في رمزية الفعل القطري بالنسبة للثورات العربية بشكل عام، حيث شكلت الدولة خطوط الإمداد الإعلامية والمادية والدبلوماسية الداعمة لتحرك الجماهير المطالبة بالحرية والعدالة ورفع الظلم والاستبداد.
إن ما أقدمت عليه قطر من فعل معاكس للفعل الاستبدادي قبل الثورات وما أنجزته من فعل مصادم للفعل الانقلابي بعد الثورات، هو السبب المركزي الذي يفسر الحرب الإعلامية التي اندلعت ضد هذه الدولة العربية النوعية. إن الحملة الإعلامية العدائية ضد قطر ـثم ضد تركيا بعد فشل الانقلاب وقبله ـ هي في الحقيقة حروب ضد كل من يحاول الخروج عن المنطق الاستبدادي بما هو نظام خالق للموت والتخلف، وضد كل من يقف في وجه أنظمة الوكالة الاستعمارية التي ستسقط يوما طال الزمان أم قصر.