بعد وصول نداء تونس إلى الحكم وانفراده بالرئاسات الثلاث، انتظر الذين انتخبوه أن يتحقق الحد الأدنى "الممكن" من وعوده الكبرى خلال حملته الانتخابية. ولمّا كان أساس الانقسامات في تونس هو أساس ثقافوي هووي لا علاقة له بالمسألة الاقتصادية (بحكم غياب أي مشروع حقيقي في مستوى إعادة بناء منوال التنمية أو تغيير بنية توزيع الثروة جهويا وقطاعيا) ولا علاقة له أيضا بأفق السيادة الوطنية (بحكم غياب أي مشروع وطني حقيقي لإعادة بناء العلاقات مع الخارج على أساس الشراكة والمصالح المتبادلة لا على أساس التبعية والوكالة)، لمّا كان الأمر كذلك فإنّ تقويم أداء الرئيس وحزبه (أو بالأحرى ما تبقى منه بعد الانشقاقات التي حصلت فيه) لا يجب أن يتم في مستوى وعوده الاقتصادية، بل بربطه بما فعله للدفاع عن الأسطورة التأسيسية والتوليدية لكل أساطير النخب الحداثية يمينا ويسارا: "النمط المجتمعي التونسي".
كان الأساس المكين الذي ارتكز عليه الناخب الندائي (ومن حالفه من "قطّاع الطريق"على السيد منصف المرزوقي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية) لاختيار السيد قائد السبسي هو قدرته على تذويب التناقضات بين الحداثيين وتجميعهم في كتلة "براغماتية" ضد "المشروع الرجعي الظلامي" للإسلاميين بقيادة حركة النهضة، وبالتالي حماية "المشترك الثقافي العام" الذي أطبق الحداثيون على اختلاف مرجعياتهم بتسميته ب"النمط المجتمعي التونسي". فإلى أي حد نجح "مؤسس نداء تونس" في الدفاع عن ذلك "النمط المجتمعي"، هذا المطلب "الهلامي" الذي يتحدث عنه الحداثيون كلهم دون التفكير في ضبطه وكأنه بداهة لا تحتاج إلى تدليل أو برهان، وهو المطلب ذاته الذي ذوّب الاختلافات الإيديولوجية بين "الحداثيين"، بل أصابهم جميعا بالزهايمر لينسوا تجاوزات "سي الباجي" في حق المرأة والصحافيين وساكنة الدواخل والشهداء والأمنيين وغيرهم؟
لعل أوّل ما صدم الناخب الندائي بعد فوز حركته "النيو-تجمعية" بالأغلبية البرلمانية وبرئاسة الجمهورية هو تراجع السيد قائد السبسي عن أهم شرط في حملته الانتخابية ألا وهو عدم التحالف مع النهضة وتكوين جبهة حداثية مع مكوّنات العائلة "الديمقراطية". ولكن هل فعلا خان السيد قائد السبسي "النمط المجتمعي" بالتحالف مع النهضة أم إنه قد خدمه بهذا التحالف بصورة لم يكن يحلم بها المخلوع ذاته في أوج استبداده بالسلطة وإقصائه للإسلاميين؟
لنبدأ من حيث لا ينتظرنا "النمطيون" و"النمطيات"، ولنطرحْ بعض الأسئلة التي ستساعدنا على تعيين الشرط الضروري (والكافي) لاختيار "سي الباجي" من أغلبية الناخبين المؤمنين ب"أسطورة "النمط المجتمعي التونسي: هل كان من انتخب الباجي يُصدّق فعلا أنه سيجعل من تونس استثناء أو "معجزة اقتصادية" مع بقاء المنوال الاقتصادي على حاله ، ومع اعتماده في تمويل حملته الانتخابية على مال سياسي"مشبوه"؟ هل كان من انتخب"سي الباجي" يجهل تاريخه الاستبدادي باعتباره رمزا من رموز المنظومة الدستورية-التجمعية الحاكمة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا؟ هل كان من انتخب "سي الباجي" يجهل علاقته بالثورة المضادة وبسعي الدولة العميقة لاستعادة التوازن حمايةً لمصالحها المادية والرمزية التي تعرضت لتهديد جدي –لكنه مؤقت- بعد الثورة؟
لا شكّ في أنّ القاعدة الانتخابية الندائية (ومعها حلفاءها في اليسار الثقافي) لم تكن تنتظر من السيد قائد السبسي أية تغييرات اقتصادية أو سياسية تندرج في أفق ثوري أو حتى في أفق إصلاحي يقطع مع التوجهات الكبرى للمنظومة الشيوـتجمعية الفرنكفونية الحاكمة قبل الثورة. فلا يمكن لعاقل أن ينتظر من شخص تسعيني قد بُعث من مرقده السياسي ببركة الدولة العميقة أن يمس بمصالح نواتها الجهوية وشبكاتها الزبونية ولا أن يُهدد مصالح "أصدقائها" الإقليميين والدوليين الذين هم في النهاية "أصدقاء" المخلوع ونظامه المافيوزي التابع.
يمكننا أن نردّ كل "نجاحات" السيد قائد السبسي (وهي بالأساس نجاحات شخصية وفئوية وجهوية لا علاقة لها بأي أفق ثوري أو إصلاحي)إلى نجاج أصلي تُشتق منه بالضرورة سائر "النجاحات" الأخرى: إعادة البورقيبية -بعد الثورة التي قامت على لحظتيها الدستورية والتجمعية- إلى مرتبة"الخطاب الكبير" أو الخطاب المرجعي الذي تستمد سائر الخطابات الأخرى شرعيتها من درجة اقترابها منه أو ابتعادها عنه. والبورقيبية هي ذلك الخطاب السياسي الذي لا يمكن فصله عن مفهوم "الأمّة التونسية"–ومن ورائها "النمط المجتمعي التونسي"- باعتبارها هوية ثقافية وحضارية مختلفة عن حاضنتها العربية الإسلامية،وهو ما يعني أن الباجي ونمطه وأمته التونسية قد تحوّلوا جميعا من موقع النقيض المفهومي للقوميين والإسلاميين واليساريين الأمميين إلى موقع "الحكم" أو المرجع الأعلى الذي يحكم الجميع في إطار توافق ضمني ينسف كل الادعاءات والمزايدات الإيديولوجية التي تتجاوز الدولة-الأمّة.
لقد عمل"سي الباجي" منذ أن كان رئيسا للوزراء في الفترة الانتقالية التي سبقت انتخابات 2011 التأسيسية على حرف الصراع إلى منطقة الصراعات الثقافوية الهووية التي يتقابل فيها مشروعان "مجتمعيان"(مشروع مجتمعي حداثي تختزله التركيبة السحرية "للنمط المجتمعي التونسي"، ومشروع مجتمعي ظلامي يُجسّده الإسلام السياسي بكل تشكيلاته). فكان أن "غازل" اليسار الراديكالي نفسه بنجاح دفعه إلى تهميش المسألة الاقتصادية (وبالتالي الدفع بالتناقض مع البرجوازية الحاكمة إلى خلفية المشهد والأولويات "النضالية") والارتداد إلى الاصطفافات الثقافوية عبر مقولة التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، تلك المقولة التحليلية البائسة التي شرّع بها الكثير من المنتمين إلى "العائلة الديمقراطية" (وهي عائلة لا تتقابل ديمقراطيتها مع الاستبداد بل مع الإسلام السياسي) خدمة المخلوع في حربه المفتوحة ضد الإسلاميين.
كان فشل الترويكا (أو بالأحرى إفشالها) رسالة قوية لحركة النهضة حتى تخرج من لحظة "التوافق" ضد المنظومة إلى لحظة "التوافق" داخل المنظومة وبمنطقها. ولم يكن الحكّام الفعليون لتونس (ومَن وراءهم في مراكز القرار الإقليمي والدولي) يرغبون في تونسة السيناريو المصري أو في تكرار تجربة المخلوع. ولكنّ "التطبيع" مع حركة النهضة لم يكن ليحصل إلا بتهميش محددين هامّين طبعا هويتها السياسية قبل انتخابات المجلس التأسيسي : القيم أو التشريعات الإسلامية واستحقاقات الثورة. وهو ما يعني أنّ ثمن التطبيع مع حركة النهضة هو أن تقبل بالاندراج الطوعي في خدمة "النمط المجتمعي التونسي" الذي سيشتغل تحت قيادة "سي الباجي" باعتباره قوة جذب للإسلام "المعتدل" لا باعتباره قوّة نبذ له.
لقد استطاع "سي الباجي" بتحالفه مع حركة النهضة أن يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: استطاع تحييد "ماكينة" النهضة وعزلها عن الشارع بما هو قوة ضغط على التوجهات اللاشعبية واللاوطنية للحكومة، وحرم النهضة من جزء من قاعدتها الانتخابية المتدينة وتفتيت أي جبهة "إسلامية" ممكنة بعد أن أصبحت "النهضة" خصما لدودا لحزب التحرير وللسلفيات بأنواعها، كما حال دون تمكّن النهضة من بناء قاعدة انتخابية محافظة يكون المتدين جزءا منها ولا يختزلها.
عندما دفع "سي الباجي" النهضة لقبول و/أو لتزكية قرارات لا علاقة لها بالأعراف الاجتماعية فضلا عن القيم الدينية أو استحقاقات الثورة (كرفع التحفظات على بعض البنود في اتفاقية سيداو، أو التطبيع مع الجنسية المثلية، أو المصالحة الاقتصادية مع رموز الفساد، أو رفع عقوبة استهلاك المخدرات(مادة الزطلة)،...الخ)، فإنه قد جعل من النهضة "واقعيا" جزءا من "النمط المجتمعي التونسي" رغم إصرار أغلب قيادييها وقواعدها على منطق الإنكار وعلى تمثل أنفسهم بالتقابل مع ذلك "النمط" الذي تشكلت هويتهم الجماعية-بل هوياتهم الفردية- على هامشه أو ضده.
في كل المواقع القيادية التي احتلها بعد الثورة، نجح الرئيس التونسي في تحقيق المطلوب منه: نجح في إخراج الجميع من منطق الثورة إلى منطق الدولة، نجح في تغذية الصراع على أساس ثقافوي وإبعاد الفاعلين الجماعيين عن الاستحقاقات الاقتصادية التي كادت تعصف بمصالح المنظومة الحاكمة بعد الثورة، نجح في استثمار الأيديولوجيات المتنازعة وإخضاعها للبورقيبية ولحدود الدولة-الأمة، نجح في تكريس أسطورة "النمط" المجتمعي والدفع بها إلى مناطق كان المخلوع نفسه لا يحلم بها، أي إنه قد نجح في إعادة التوازن إلى المنظومة الدستورية-التجمعية وفي ضرب كل التهديدات الجدية التي قد تواجهها على الأقل في المدى المنظور.
سواء أكان الباجي قائد السبسي هو "النمطي الأخير" باعتباره من أعاد التوازن للأسطورة التأسيسية المسمّاة"نمطا مجتمعيا تونسيا" بعد أن كادت تنهار بفعل الحدث الثوري، أم كان هو "النمطي الأخير" باعتباره من سيوصل ذلك "النمط المجتمعي" إلى تناقضه الذاتي الأقصى بحكم استحالة المحافظة على التوازنات الهشة الحالية، سواء أكان هذا أم ذاك فإنّ المسار "الظافر" للرئيس التونسي قد وضعنا وجها لوجه أمام عقم العقل السياسي التونسي يمينا ويسارا، ذلك العقل الذي عجز بعد الثورة عن بناء رمزيته وسرديته ورهاناته الخاصة، فكان أن ارتد خاسئا إلى البورقيبية ليوكل إلى ورثتها التجمعيين بناء الجمهورية الثانية في الوقت الذي كان من المفترض أن تكون قطيعة مفهومية وبشرية جذرية مع الجمهورية الأولى ورأسمالها البشري والرمزي على حد سواء...وما ذاك إلا من مكر "سي الباجي" (والمسؤول الكبير) بالطبقة السياسية كلها، لكن إلى حين.
روعاتك استاذنا وصف دقيق للمشهد التونسي مع وضع اليد على الجرح في اختزالك للوضع في انتقالنا من الثورة الى الدولة وذلك بمجهودات زعيم الثورة المضادة ورئيس النمطيين ... دمت دائما صادح بالحق