هل يستطيع أحد أن ينكر أن النشء العربي الجديد، وخاصة الذين يتعلمون في مدارس أجنبية، وما أكثرهم، أصبحوا نسخة طبق الأصل عن التلاميذ الأجانب، ليس في اللغة فحسب، بل في الاهتمامات والتصرفات والتفكير وحتى الهوية.
من هو المثل الأعلى للطفل العربي؟ من هو بطله المفضل؟ من هو مطربه أو من هي مطربته أو ممثله أو ممثلته المفضلة؟ قلما تجد شخصية عربية بين هؤلاء، إلا ما ندر. فكل الشخصيات الكرتونية أو السينمائية أو التلفزيوينة التي تعلق بها أطفالنا هي شخصيات غربية. هل يعرف أولادنا غير «سوبرمان» و«باتمان» و«سوبر زورو» و«فانتاستك فور» و«كيم بوسبل» و«طرزان» و«لايون كنغ» و«أكشن مان» و«ذا إنكريدابلز» و«ننجا تيرتلز» و«بيكومون» و«هالك» و«توم أند جيري» و«بوب آي» وغيرهم؟ حاول أن تدخل أي محل ألعاب، فلا ترى أي ألعاب عربية.
والخطير في الأمر أن الشركات التي تطلق تلك الرموز السينمائية والكرتونية والتلفزيونية الأمريكية بارعة إلى أقصى الحدود في تصميمها وترويجها، بحيث يتعلق الطفل بحبائلها بسرعة هائلة. فلو اشتريت لطفلك لعبة «سبايدر مان» كل يوم لما ملـّها، وظل يطلب المزيد منها. وحتى الأطفال الصغار جدا الذين لا تتجاوز أعمارهم السنتين، يبدون اهتماما منقطع النظير بالألعاب التي تطلقها الشركات السينمائية للترويج لأبطالها مثل «باتمان» و«سبايدرمان». وكثيرا ما تساءلت: ما الذي يجعل طفلا في سنته الثانية يتولع بتلك الشخصيات السينمائية والتلفزيونية بهذا الشكل الرهيب؟ فقد كنت ألاحظ أن الطفل يبدأ بالصراخ وتحريك يديه، كونه لا يتكلم بعد، كي يلفت انتباه والدته أو والده كي يأتي له باللعبة في المجمعات التجارية الكبرى. وقد وصل الولع بتلك الشخصيات إلى حد أن أطفالنا يحاولون تقليدها في المنزل، فيصعدون على الأريكة ويهبطون على طريقة «سبايدرمان»، أو يحاولون تقليده في الطيران. وكم اندهشت لقيام طفل لا يتجاوز العام ونصف العام من العمر بالجلوس لمشاهدة أفلام «باتمان» و«سبايدرمان» من أولها حتى آخرها، ومن ثم يحاول أن يطلق أصواتا ويطير مثلها. لا أدري كيف يمكن لثقافاتنا أن تتنافس مع تلك الشركات الرهيبة على عقول أطفالنا، خاصة أنها داخلة في تحالف أيضا مع شركات الأكل والشراب الغربية المعروفة، التي تقدم للأطفال وجبات مرفقة بهدايا هي عبارة عن ألعاب ومجسمات لشخصيات فنية أمريكية شهيرة؟
ولو أخذنا الألعاب التي تهتم بها البنات العربيات الصغيرات، لوجدنا أن معظمهن متعلق إلى حد الهوس بلعبة «براتس» و «باربي» و«ماي سين» الشهيرة. وهي عبارة عن مجسمات لفتيات جميلات تبيع الشركات المنتجة منها ملايين القطع يوميا وبأسعار باهظة. صحيح أن إحدى الشركات العربية أطلقت لعبة عربية متحجبة باسم «فـُلة» للمنافسة مع النماذج الأمريكية ونجحت إلى حد ما، لكنني كم تفاجأت عندما رأيت بعض التلميذات العربيات يسخرن من «فلة» العربية، ويتهافتن لاقتناء النماذج الغربية التي تصنـّع الشركات من كل واحدة منها عشرات الموديلات ومختلف الأشكال.
ولا يقتصر ولع أجيالنا الجديدة بالشخصيات الكرتونية والدمى الأمريكية، بل يتعداها إلى كل مكونات الثقافة الأمريكية من مطربين وفنانين وممثلين. وقد تجاذبت قبل فترة أطراف الحديث مع مجموعة من التلاميذ والتلميذات العربيات في إحدى المدارس، وطلبت من إحداهن أن تغني أغنية سريعة، فغنت على الفور أغنية للمطربة الأمريكية لنزي لوهان. فسألتها، ألا تعرفين أغاني لمطربات عربيات، فقالت: I do not care، لست مهتمة بهن. وينطبق الأمر ذاته على الممثلات والأفلام والبرامج التلفزيونية التي تتابعها الفتيات. وأرجو ألا يقول لي أحد إن هناك مطربات عربيات كثيرات تتعلق بهن الفتيات العربيات. وهذا صحيح، لكنهن أخطر على الجيل الصاعد من المطربات الغربيات من حيث «الغوربة» والتغريب، فهن يزايدن على المطربات الأمريكيات في كل شيء، إلى حد أنك تترحم على بريتني سبيرز وشاكيرا.
ولو نظرنا إلى قنوات التلفزة الموجهة للأطفال على الستالايت أو الكيبل، لوجدنا أنها في معظمها أيضا أمريكية ويتابعها الأطفال بشغف منقطع النظير. أما القنوات العربية المخصصة للأطفال فليس لها حظ كبير من المشاهدة، خاصة أن بعضها يقوم بترجمة الأفلام والمسلسلات والبرامج الأمريكية إلى العربية ويدبلجها. فما الفائدة إذا كانت قنوات الطفل لدينا تقوم بعملية «الغوْربة» نيابة عن الغربيين، ولا تحاول خلق ثقافة تلفزيونية عربية خاصة تجتذب الأطفال العرب بها؟ ناهيك عن الأطفال الذين يفضلون متابعة البرامج الغربية دون ترجمة، خاصة أن معظمهم يتقن الإنكليزية أكثر من العربية.
إن البرامج الموجهة للأطفال في وسائل إعلامنا العربية لا تختلف عن بقية البرامج، فإذا كانت البرامج الإخبارية والفنية والترفيهية التي تجتاح تلفزيوناتنا كلها مستمدة من الثقافة الإعلامية والبرامجية الغربية، فلا يمكن لبرامج الطفل أن تشذ عن القاعدة، خاصة أنه ليس لدينا تراث برامجي تلفزي يمكن الاعتماد عليه، ناهيك عن أن المحاولات القديمة الرائعة لتأسيس ثقافة تلفزيونية عربية للطفل قد تبخرت، مع العلم أن بعض المسلسلات كـ«افتح يا سمسم» لاقى اهتماما منقطع النظير من جماهير الأطفال من المحيط إلى الخليج. لكن يبدو أننا أميل إلى الاستسهال والتقليد منه إلى الإبداع إعلاميا.
ومع انتشار أجهزة الألعاب الإلكترونية كـ«بلي ستيشن» و«غيم بوي» وغيرهما، تكرس اهتمام أطفالنا بالثقافة الغربية، فكل الألعاب أبطالها وشخصياتها غربية، خاصة أن الشركات المصنعة لتلك الألعاب استغلت الشخصيات والرموز التلفزيونية والسينمائية الأمريكية وحولتها إلى ألعاب إلكترونية، مثل «باتمان» و«سبايدرمان» و«فانتاستك فور» و«ستار وارز» و«سوبرمان». دلوني بربكم على لعبة إلكترونية عربية واحدة! لا يوجد أبدا، فكيف نصنع ونصمم الألعاب الإلكترونية إذا كنا ما زلنا في عصر ما قبل التصنيع؟
والأخطر من ذلك أن قسما كبيرا من الأطفال العرب الذين يدرسون في مدارس غربية في بلادنا، ممنوعون من دراسة التاريخ العربي والإسلامي، ويتعلمون بدلا منه التاريخ الغربي، وبذلك ليس لديهم الفرصة للتعرف على رموز الحضارتين العربية والإسلامية وأبطالهما ومكوناتهما. لهذا سيتخرج لدينا عشرات الملايين من الشابات والشباب الجاهلين بحقائق التاريخ العربي والإسلامي، والمنسلخين بالتالي من جذورهم الأصلية. ومما يزيد الأمر خطورة أن بعض البلدان العربية لم تعد مهتمة بتدريس التاريخ العربي والإسلامي العام حتى في مدارسها العربية، واستعاضت عنه بتدريس التاريخ المحلي لكل بلد، مما سيحرم ملايين التلاميذ والطلبة من التعرف على النماذج العربية والإسلامية المشرقة والاقتداء بها واستلهام شخصياتها، بدلا من استلهام شخصيات تاريخية غربية أو سينمائية حديثة مثل «سوبر زورو» و« باتمان». ولا تتفاجأوا إذا قرأتم قريبا أن الشخصية التاريخية العظيمة صلاح الدين الأيوبي إرهابي كبير.
هل يمكن أن تبنى مجتمعات عربية بمكونات أجنبية؟
1
شارك
التعليقات (1)
منصور محمد الخطيب
الأحد، 12-03-201703:33 م
ردا على مقال هل أطفالنا عرب
عذراً أنني قرأت مقالك متأخراً ... لكنك وضعتك أصبعك على جرحنا النازف والذي نتوارى من علاجه .. أنا حاصل على ماجستير في التاريخ والحضارة الإسلامية و مدرس لمادة التاريخ منذ عشرين عاما ، ووصل بي الأمر أنني كنت أرى الإستغراب والدهشة تعلو وجوه من يسألني عن تخصصي ، عندما كنت أفصح لهم أنني أدرس مادة التاريخ .. وخلال مسيرتي في تدريس التاريخ لم ألقى من المدرسين الذين يدرسون التاريخ سوى المتردية والنطيحة إلا ما رحم ربي فما بالك بمناهجنا العقيمة .. لا أريد أن أطيل عليك مقال أكثر من رائع ذكرني بابنة الشاطئ رحمها الله .. شكر الله لك وشكرا لك على هذا المقال .. أتوق للححديث معك حول تجاربي في هذا الموضوع ..