عوّلت غالب الحركات الإسلامية السياسية، الدائرة في فلك جماعة الإخوان المسلمين، كثيرا على
الديمقراطية كخيار استراتيجي، كانت ترجو من قبله الوصول إلى ما تصبو إليه، استنادا إلى ما تحظى به من شعبية جماهيرية واسعة.
لكن تجربة بعض تلك الحركات بعد الربيع العربي، أظهرت أن الخيار الديمقراطي في العالم العربي قابل للإجهاض، وأن الأنظمة السياسية لا تتعامل معه بجدية حقيقية، فهو أشبه ما يكون بديكور تجميلي، لا يعكس توجهات جدية وحقيقية بحسب باحثين ومراقبين.
أمام مشهد إجهاض المسار الديمقراطي في العالم العربي، واغتيال نتائجه التي كانت دائما تدفع الإسلاميين إلى صدارة المشهد، هل تغيرت نظرة الإسلاميين "الديمقراطيين" إلى الخيار الديمقراطي؟ وهل ما زالوا يعولون عليه كخيار استراتيجي في ممارستهم السياسية أم أنهم وصلوا إلى قناعة بعقم هذا الخيار؟.
وفي هذا السياق يلحُّ سؤال آخر: ما قيمة الأخذ بالخيار الديمقراطي بعد أن أثبتت التجارب أنه غير مرحب به من قبل الأنظمة العربية الرسمية، وأنه لا يجد ترحيبا محليا إلا حينما يكون مدعوما من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، التي سرعان ما تتنكر له وتمضي في سياساتها المتحالفة مع الأنظمة الاستبدادية الديكتاتورية؟.
مناهج التغيير ليست ثابتة
برؤية تحليلية تستند إلى قراءة المنطق الحاكم لكل مسارات التغيير في التاريخ، رأى الكاتب والمحلل السياسي ياسر الزعاترة أنه "ليس في مناهج التغيير شيء ثابت، بل تتغير تبعا لظروف الزمان والمكان، وموازين القوى".
وقال الزعاترة لـ"عربي21": "لم تلبث القوى الإسلامية الوسطية بعد تجارب عديدة أن انحازت لمناهج التغيير السلمية، ومن ضمنها المشاركة في اللعبة الديمقراطية".
وأضاف "خلال ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، ومطلع الألفية الجديدة، استقر الرأي في أوساط القوى الإسلامية، أو بعضها على الأخذ بالمسار الديمقراطي، ليس قناعة منها بأنه سيفضي إلى حل حقيقي، ولكنه المتاح في مواجهة أنظمة قوية أمنيا وعسكريا، ويدعمها الخارج بقوة".
وأوضح الزعاترة في معرض قراءته لمسار الخيار الديمقراطي أنه "بمرور الوقت ثبت أن الهامش المتاح محدود إلى حد كبير، وأنه لا يتعدى منح شرعية لديكور ديمقراطي لا يقدم ولا يؤخر، فيما تستمر سيطرة نخبة محدودة على السلطة والثروة".
وجوابا عن سؤال: كيف قرأ أداء الإسلاميين في مرحلة الربيع العربي، وما تقييمه لتجاربهم أثناء تلك المرحلة وبعدها؟ قال الزعاترة "الربيع العربي كان تعبيرا عن تلك القناعة، أي استحالة التغيير بالأدوات الديمقراطية، فكانت الثورات السلمية، والتي يعرف الجميع ماذا جرى لها لاحقا، بتفوق قوى الثورة المضادة، المدعومة من الخارج ولو مرحليا".
ووفقا فإن القوى الإسلامية، بخاصة التي تنتمي إلى مدرسة الإخوان، والقريبة منها، عادت إلى المشاركة في
الانتخابات من جديد، وهذا أمر طبيعي في ظل ما يشبه الحرب الكونية عليها، ولأن السياسة في المحصلة النهائية هي التعامل مع الممكن والمتاح.
وبحسب قراءة الزعاترة فإن تلك الحركات والقوى الإسلامية، تدرك تماما أن أخذها بالخيار الديمقراطي والسير فيه، لا يعني القناعة بأنه سيحقق العدالة والحرية، فضلا عن استعادة المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع، لكنه المتاح راهنا في ظل موازين القوى المختلة ضد قوى وحركات ما يعرف بالإسلام السياسي.
لا وجود حقيقي للديمقراطية في العالم العربي
من جهته ناقش الباحث السياسي المصري، محمد جلال القصاص موقع الديمقراطية في رؤى الإسلاميين وخياراتهم من خلال قضيتين: الأولى بالبحث عن حقيقة ما يحدث الآن وهل هو بالفعل تحول ديمقراطي متعثر، والثانية: عن علاقة الإسلاميين بالديمقراطية، وهل يؤمنون بها كهدف كلي، ويالتالي يسعون إلى تحقيقها؟
وطبقا لرؤية القصاص فإن "الديمقراطية في الوطن العربي مفقودة بالأساس، والحديث عن تحول ديمقراطي يحمل قدرا كبيرا من الخداع المعرفي، فما يحدث هو إعادة هيكلة للنظام الدولي في إطار "جني ثمار الحرب الباردة"، تماما كالذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية من تفتيت للعالم الإسلامي وكنا نعده "تحررا" و "استقلالا".
وبحسب قراءة القصاص لمسار الأحداث بعد الربيع العربي، فإنها تتجه إلى تخريب العمران في الدول العربية، بعد أن تم التركيز في مطلع الثورات على أن الهدف هو استبدال النظم القائمة باستخدام أدوات اجتماعية (الثورات) فيما عرف بالفوضى الخلاقة، وللأسف فإنهم يستخدمون الحركات الإسلامية، سواء منها السياسية، أو المقاتلة كذرائع لتخريب العمران الإسلامي.
أما عن علاقة التيارات الإسلامية بالديمقراطية فهي متباينة ولا يوجد موقف موحد منها، وأفضلهم موقفا من الديمقراطية من يتخذها أداة لاستئناف الحياة الإسلامية من جديد، ولا يوجد من يؤمن بها إلا مرحليا، فهي تضاد الفكرة الإسلامية في الأساس، على حد وصف الباحث القصاص.
ووصف القصاص لـ"عربي21" طبيعة حركة التيارات الإسلامية في اتجاه تغيير المجتمع بأنها تصاعدية، بدءا بجيل محمد عبده، ثم رشيد رضا وحسن البنا، ثم سيد قطب وطليعة الحركات الجهادية، ثم سيطرة الفكر الجهادي على المشهد الثقافي، ثم تحول الحركات الجهادية للبحث عن جغرافيا وإقامة كيان مستقل عالميا.
وأضاف "يوجد على أطراف هذا المشهد التصاعدي من يؤمن بتطور البشرية، وأن ما عليه الغرب الآن هو تطور الحضارة الإنسانية، وبالتالي يجب شرعنته أو التعايش معه في إطار التابع.. وهؤلاء هم الذين يتحدثون عن "أسلمة الديمقراطية"، إلا إنهم لا يشكلون تيارا موازيا للحركات الإسلامية أو داخلها، ولا يجدون أذنا تسمع إلا في أوقات محددة، وفي سياق تكتيكي لا استراتيجي ولا سياسي".
دعوات للمراجعة
بعد أن اكتشفت الحركات الإسلامية من خلال تجارب بعضها أن الخيار الديمقراطي لا يمكن أن يحقق لها ما تطمح إلى تحقيقه، لعدم جدية الأنظمة السياسية في تبنيه من جهة، ولوجود معارضة قوية (قوى الثورة المضادة) قادرة على إجهاضه في الوقت الذي تريده، ساد خطاب نقدي لمراجعة ذلك المسار وتقييمه بعمق.
في هذا السياق قيّم الأكاديمي والباحث الكويتي، الدكتور علي السند أداء الإسلاميين بأنهم "ركزوا جهدهم ونشطوا في مجال واحد من مجالات القوة، ألا وهو القوة الشعبية المجتمعية التي غالبا ما تنعكس على صناديق الانتخابات، والتي غالبا ما يكون للإسلاميين نصيب وافر منها".
وأشار السند في حديثه لـ"عربي21" إلى أن هناك "مكامن قوى أخرى لها القدر الأكبر في تغيير المعادلات وترجيح موازين القوى، مثل الأجهزة العسكرية المختلفة، ورؤوس الأموال، وصناعة الإعلام، والعلاقات الخارجية القوية مع المنظمات الدولية، فهذه كلها مصادر قوة تثبت قدرتها على ترجيح كفة الصراع".
وتابع "ومن الملاحظ غياب واضح للإسلاميين عنها واقعا وتنظيرا، فهي خارج دائرة الاهتمام، وعلى القوى الإسلامية أن تعيد تقييمها لمكامن القوة في الدولة والمجتمع، وما يتبع ذلك من إعادة تموضع حسب ذلك التقييم، بعدما ثبت أن العالم يحترم ويعترف بمن يمتلك تلك القوة".
من الواضح أن غالب التيارات الإسلامية لم تعد تعول على الخيار الديمقراطي في إحداث التغيير الذي تنشده وتحلم به، وباتت بعد إجهاض تجاربها تدرك بعمق عقم ذلك الخيار، وإنما تلجأ إليه كخيار اضطراري وهي تعلم يقينا محدودية هوامشه، وانسداد آفاقه، ما يلزم منه بالضرورة اجتراح رؤى جديدة، وتجديد أدوات العمل وآلياته حسب الناقدين والمطالبين بمراجعة المسار برمته.