تستمر الأزمة السياسية والعسكرية في
ليبيا، بالتزامن مع انتهاء مدة الاتفاق السياسي الليبي الموقّع بين أطراف النزاع في منتجع الصخيرات المغربية في 17 تشرين الثاني/ ديسمبر 2015. انتهى من حيث المدة القانونية، لكن البعثة الأممية إلى ليبيا وهي راعية الاتفاق، أكدت أن المدة لم تبدأ حتى تنتهي، وأن مدة سريان الاتفاق السياسي ومخرجاته تبدأ بعد الموافقة عليه من قبل مجلس النواب ومنح الحكومة المنبثقة عنه الثقة.
والأزمة ليست في الاتفاق، بقدر ما هي في التوافق بين الأطراف المتنازعة التي يدعم كل منها فصائل مسلحة. ويبدو أن الموقعين على الاتفاق لم يملكوا من القوة ما تمكنهم من إقناع الأجسام القائمة، وعلى رأسها البرلمان، في الموافقة على الاتفاق؛ الذي طالبت عدة منظمات محلية ودولية بضرورة إجراء تعديلات عليه حى يلاقي رضا الجميع.
ومع هذا السجال القائم، يظل مستقبل ومصير
اتفاق الصخيرات مرهونا بمدى مرونة الموقعين عليه؛ بشأن فتحه مرة أخرى وإجراء تعديلات مقترحة بما لا تفرغه من مضمونه، وتظل المؤسسة العسكرية ومن يقودها أهم نقطة نزاع واختلاف في بنود الاتفاق.
ويتمحور التعديل المقترح كله حول إلغاء المادة الثامنة من الاتفاق السياسي، وإيجاد مؤسسة عسكرية بقيادة اللواء المتقاعد خليفة
حفتر، وعودة صفة القائد الأعلى لمجلس النواب، خاصة أن المادة أخرجت حفتر من المشهد، وجعلت صفة القائد الأعلى في يد رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني.
وهذا التعديل ترفضه
حكومة الوفاق، خوفا من التلاعب بالاتفاق السياسي وفتحه للتعديل حسب المتغيرات على الأرض، وجعل فصيل معين يتحكم في بنوده، مؤكدة أن الاتفاق أغلق دخل حيز التنفيذ، لكن مؤخرا، وبعد ضغوطات داخلية وخارجية، ربما تبدي الحكومة مرونة في ذلك.
(مخرجات الاتفاق السياسي: مجلس رئاسي، حكومة وفاق، مجلس أعلى للدولة، وكلها أجسام قائمة لكنها ضعيفة، ويتم عرقلتها حتى وصل الأمر بطرد مسؤولين من أماكنهم والاستيلاء عليها بقوة السلاح).
تحركات
ويتزامن هذا الجدل حول الاتفاق ومخرجاته، مع عدة تحركات ولقاءات تقوم بها أطراف التناحر السياسي والعسكري في ليبيا.
ففي الغرب، سيطرت قوات البنيان المرصوص (عملية عسكرية أطلقتها حكومة الوفاق في أيار/ مايو الماضي لمحاربة تنظيم الدولة في مدينة سرت الساحلية) على مدينة سرت، وطردت تنظيم "داعش" منها، بعد حرب استمرت أكثر من ستة أشهر، وهو ما جعل القوات (المشكلة من مسلحين من طرابلس ومصراتة وبعض المدن المجاورة) تفرض نفسها على المشهد، وكذلك البدء في هيكلة وإنشاء حرس رئاسي قوي في العاصمة طرابلس لحماية مؤسسات الدولة، وفتح الباب أمام الشباب للانضمام إليه، مع تخوفات أن يصبح هذا الحرس جيشا موازيا. كما يأتي في هذا السياق لقاء جمع وزير الدفاع بحكومة الوفاق المهدي البرغثي مع السفير الروسي لدى ليبيا، حيث وعده الأخير بتنسيق زيارة قريبة إلى موسكو.
وفي الشرق، لوحظت تحركات وزيارات قام بها قائد عملية الكرامة خليفة حفتر إلى روسيا، لبحث الملف الأمني والبحث عن دعم دولي لمشروعه ولقواته. وزار "المشير" (صفة عسكرية منحه له مجلس النواب المنعقد في طبرق) موسكو مرتين خلال ستة أشهر، وفي في الزيارة الأخيرة دعمه الروس، على لسان وزير الخارجية سيرجي لافروف، والذي طالب أن يكون حفتر جزءا من المشهد، مع وعود بتدريب قوات تابعة له وإمداده بالخبراء العسكريين إن أراد، لينتقل بعدها الجنرال العسكري إلى وجهة عربية، في زيارة هي الأولى من نوعها منذ ثورة الليبيين في شباط/ فبراير 2011، حيث زار الجزائر لبحث الملف الأمني وغيرها من القضايا.
وبعدها بأيام قليلة، قام رئيس البرلمان، المستشار عقيلة صالح، بزيارة إلى موسكو أيضا، برفقة وفد كبير، لبحث الأزمة من ناحية سياسية، التقى خلالها رئيس مجلس الدوما الروسي وغيره من المسؤولين الروس، لتصب هذه الزيارات في صالح ساسة وعسكر الشرق الليبي، ليكون هناك توازن قوى بين الطرفين تجعل الاتفاق أو التفاوض هو السبيل للجمع بينهما.
الداخل
وفي الداخل الليبي، يعاني المواطن من أزمة سيولة في المصارف وأزمة مياه وكهرباء، بالإضافة إلى الأزمة الأمنية المفتقدة شرقا وغربا، ففي الشرق حرب يقودها حفتر ضد مجلس شورى ثوار بنغازي (مجموعة مسلحة) لـ"القضاء على الإرهاب"، حسب زعمه، هدمت خلالها مدينة بنغازي وهجر الآلاف ونزح مثلهم، ولم تحسم المعركة لصالح فصيل حتى الآن، لكنها بين كر وفر مع تقدم لقوات الكرامة (عملية عسكرية أطلقها حفتر في 2014) في بعض الجهات.
وفي الغرب، مليشيات مسلحة متناحرة، أدخلت العاصمة في حالة فوضى، بسبب تناحرها على السلطة والنفوذ، ودعم طرف على حساب آخر، في ظل غياب مؤسسة عسكرية موحدة تجمع كل هؤلاء أو تحجم توغلهم الذي وصل إلى حد الاختطاف والقتل والاغتصاب.
وبين التناحر والتوازن شرقا وغربا، تظل المشكلة تكمن في "التوافق" وليس "الاتفاق"، فالأخير محل جدل ونقاش ورفض من فاعلين رئيسيين في الأزمة، لكن التوافق لا يرفضه أحد، وله ظهير شعبي كبير، حيث يبحث المواطن عن الاستقرار والتهدئة، والتوافق معناه تفعيل الحوار الليبي- الليبي بين أطراف النزاع والقوة الحقيقيين، وهذا ما يجب فهمه من قبل المجتمع الدولي الذي تسبب ببعض قراراته ودعمه لطرف على حساب آخر؛ في التأجيج والاحتقان أكثر.
قوة سياسية متمثلة في مجلس النواب في الشرق ومجلس أعلى للدولة والمجلس الرئاسي في الغرب، وقوة عسكرية متمثلة في قوات حفتر في الشرق ونظيرتها المسلحة في الغرب (والتي ليست لها قيادة واضحة لكن ربما تنضوي تحت رئاسة الأركان الموجودة في طرابلس).. وهنا قد ينجح التفاوض في لملمة الجرح الليبي، وإلا فالبديل أصوات "الكلاشينكوف" تدوي في كل مكان.