"الشُحنة" من الشحن، وكل مشحون فهو "شُحنة"، و"الشُحنة" اصطلاحا لها علاقة بمن يعملون في وظيفة النقل بأنواعه المختلفة ومنها النقل البري، فيقال "شُحنة خضار"، أو "شُحنة طماطم"، أو "شُحنة دقيق"، وإذا اجتمعت "الشُحنة" مع أجهزة الأمن في خبر واحد فإن هذا كاشف عن "شُحنة مخدرات"، لكن الجديد في عالم الشحن، هو القبض على "شُحنة كتب" كانت في طريقها إلى الدوحة، وهو الخبر الذي نشرته الصحف ومواقع الإنترنت في مصر، وبشكل يوحي كما لو كانت "الشُحنة" خاصة بتمثال "أبو الهول"، أو بجثمان"خفرع"، لأن صحيفة "الأهرام" لا "البعكوكة" نشرت الخبر بالبنط العريض، فقد كان هذا مانشيت العدد، والعنوان: "قطر تبحث عن هوية". على نحو كاشف بأن القطريين كانوا في انتظار وصول "الشُحنة" ليعلنوا أنهم من بنوا الأهرامات!
بعض الصحف نشرت أن سلطات الأمن في مطار القاهرة، اشتبهت في "الشُحنة" وبتفتيشها تم العثور على كتب أثرية دون إيضاح، وبعض الصحف والمواقع الأخرى نشرت أن الواقعة جرت في ميناء دمياط، فقد حدث الاشتباه في "شُحنة"، وبتفتيشها تم العثور على هذه الكتب الأثرية المسربة إلى قطر، ولأنه في هذا اليوم الذي تم فيه ضبط المضبوطات، أرسل لي أحد الزملاء "شُحنة كتب" من القاهرة، فقد وجدته في هلع، ولم أنته من قراءة الخبر في جريدة "الوفد"، حتى انتابتني حالة من الضحك، اعتبرها هو عدم تقدير مني للموقف. فسألته وما هو الموقف ليمكن تقديره، في بلد مات فيه المنطق بالسكتة القلبية؟.. فنحن نعيش في حالة فقدت فيها كثير من العبارات المتوارثة معناها، فيعلن "مظهر شاهين" أن الشيخ عصام تليمة أفتى بإهدار دمه مع أن إهدار الدم يستلزم وجوده، وهو غير موجود أصلا.
لقد هدأ زميلي من روع نفسه، فلديه المستندات الدالة، على أن الكتب قام بشرائها من مكتبة معروفة في وسط القاهرة، وهي كتب تحمل رقم إيداع من هيئة الكتاب التابعة لوزارة الثقافة، ثم إنها جميعها بعيدة عن السياسة فكلها في القانون، وكتابان فقط يحملان عنوان تاريخ الصحافة، ومن معرض الكتاب بالدوحة الذي يعقد هذه الأيام اشتريت كتابا يحمل عنوان "تاريخ الصحافة" لمن سبقت اسمها بلقب "الأستاذة"، ليس فيه كلمة واحدة عن تاريخ الصحافة، ويبدو أن الكتاب في الأصل أطروحة علمية تقدمت بها لجامعة "عنابة" بالجزائر، وإن كان من كل فيلم أغنية، وقد ذكرنا اسم الجامعة بالأغنية التراثية في هذا اليوم التراثي"عنابي يا عنابي يا خدود الحليوة"، لكارم محمود!
مما قاله الزميل وهو يثبت فؤاده، إن لديه من الأوراق ما يفيد أن الجمارك ببريد "العتبة" قد اطلعت على الكتب قبل إرسالها، وعندما سألته عن الجمارك هذه قال إنها فرع لمصلحة الجمارك داخل مكتب "البريد"، مهمته الاطلاع على "الطرود"، فهي "طرد" وليست "شُحنة" مفرد "شُحنات".. كهربائية. وفي ظني أن السلطة الحاكمة في مصر في حاجة ماسة للعلاج بالشحنات الكهربائية، لأن المتابع لأدائها يلمس أن هناك شيئا ما في أعلى الرأس قد توقف!
اطلعت على الخبر منشورا في أكثر من صحيفة وموقع إلكتروني لعلي أجد على النار هدى، فاكتشفت أن الحديث عن كتب أثرية أمكنا من الوصول إلى أنها ليست مخطوطات مسروقة من دار الكتب والوثائق مثلا، كانت في طريقها للعاصمة القطرية – الدوحة، ولكنها كتب قديمة، ولم تمر على الأزهر باعتباره جهة الاختصاص عند تصدير الكتب الأثرية التي مر عليها مئة عام، ليبقى السؤال: ومن سمح لها بالتصدير مادامت تحتاج إلى موافقة الأزهر، وهناك الجمارك -كما قال زميلي- التي تطلع على "الطرود" قبل السماح لها بالمغادرة إلى خارج البلاد؟ وهل يسري الوصف "أثر" على كتاب "تحفة العروس ومتعة النفوس" مثلا، وهل يسري على معلقات عمر بن كلثوم؟!
لم تشر الأخبار المنشورة في هذه "القضية الوعرة"، إلى متهمين يقفون خلف تهريب "شُحنة الكتب الأثرية"، إلى قطر لتحقيق هويتها بحسب "مانشيت الأهرام"، فلم يشر المنشور إلى أن هناك أشقياء يقفون وراء محاولة تهريب هذه "الكتب الأثرية"، مما يعني أننا أمام قضية مختلقة الهدف منها التشهير بقطر. فعدت من هنا أزعزع يقين زميلي فقد استقر في وجدانه بأن كتبنا ليست هى التي وقعت في حوزة الأجهزة الأمنية، وهي تتسلل في طريقها لمطار "حمد الدولي"، فإذا كانت "الشُحنة" المرسلة تضم كتابين للفقيه الدستوري الراحل ثروت بدوي، فما الذي يمنع أن يتم النظر إلى مؤلفاته على أنها آثار؟
كانت هذه المرة الأولى التي أعلم فيها أن الكتب تدخل في باب الأثر بحسب القوانين المصرية، فقد كنت أعلم أن الأثر هو مبنى أو عقار مر على بنائه مئة عام. والدكتور "ثروت بدوي" يبدو شخصية تاريخية، وقد كنت لوجود مؤلفاته ضمن المراجع في الكثير من الدراسات القانونية والأحكام القضائية أظنه شخصية تراثية، إلا أني شاهدته في منتصف التسعينيات في أحد المؤتمرات. وقد نبذل جهدا أمام جهات التحقيق لكي نثبت أن الرجل الذي توفي قبل عدة شهور ليس هو نفسه أثرا لتصبح مؤلفاته هكذا!
وليس توظيف القضاء في الانتقام من الخصوم السياسيين قاصرا على مرحلة حكم السيسي، وإن كانت وقائعه صارت كثيرة في هذا العهد، ففي عهد مبارك وفي إطار الانتقام السياسي أصدرت النيابة العامة قرارا بضبطي وإحضاري، وعندما مثلت أمام وكيل النيابة، وسألني أنت متهم بإصدار صحيفة دون ترخيص، ولم أكن قد فعلت، فلم أشأ تمرير هذه اللحظة التاريخية لإظهار جهله، فقلت له: ما هو النص القانوني الذي يجرم إصدار صحيفة دون ترخيص؟!
فأمسك بمجلد ضخم، يبدو أنه أثر، وأخذ يفتش فيه بحثا عن العقوبة، وكان أن تصبب عرقا، ثم عاد ليسألني: ألا توجد عقوبة؟! فقلت له: وإذا كنت لا تعرف فعلى أي أساس كان قرار الضبط والإحضار الذي لا يكون إلا بارتكاب فعل مجرم قانونا؟!
كانت حجرة التحقيق صغيرة، وقد احتشد فيها أكثر من عشرة من المحامين، مما جعل الموقف في غاية الإحراج له، وكان قد سخر من قبل من حضور هذا العدد الكبير وأشتبك مع أحدهم؛ لأنه أصر أن يرد على إشعاله سيجارة في حضورنا بمثل ما فعل، ومع ذلك كان القرار الذي تلقاه بالهاتف هو الإدانة، وبعقوبة مالية، في تهمة لم تقع وفي حال وقوعها ليست مجرمة قانونا، وقد تم تعديل القانون بعد عامين على هذه الواقعة ليتم النص على الدروس المستفادة من هنا، أننا أمام غياب للقانون، فالقانون في مصر في إجازة، لاسيما أن الهدف هو التشهير بقطر. وفي اليوم التالي تم نشر خبر ترحيل ثلاثة من القطريين من القاهرة لوقوع مشاجرة بينهم في أحد المطاعم بالقاهرة، وقبل هذا تم القبض على قطري وفي حوزته كمية من اللحم تبين – بحسب المنشور على نطاق واسع – أنها لماعز مصري، لتكون هذه المرة الأولى التي أعرف فيها أنه يحرم نقل لحم الماعز المصري إلى خارج الحدود. ويبدو أن المواطن القطري هذا عضو في تنظيم يستهدف تدمير الاحتياطي الاستراتيجي من حصة مصر المقررة دوليا من لحم الماعز!
وأنا أكتب هذه السطور بلغني أن "شُحنة" الكتب الخاصة بي وصلت للدوحة في أمان الله، واللافت أن واقعة الانقضاض على "شُحنة الكتب الأثرية" سواء حدثت الواقعة في مطار القاهرة، أو في ميناء دمياط، حدثت في الوقت الذي ينعقد فيه معرض الدوحة للكتاب، فما الذي يمنع أن تكون هذه "الشُحنة" هي لدار نشر مشاركة في المعرض، ولم تكن "الشُحنة" في طريقها للقصر الأميري ضمن مخطط قطر للبحث عن هويتها كما قال "مانشيت الأهرام". لاحظ "الأهرام" الجريدة الأثر، وأحد الكتاب الأميين في مصر كتب ذات مرة أن جريدة "الأهرام" أقدم من دولة قطر، ولم يعلم لأميته بأن "الأهرام" أسسها الشوام، واستولى عليها العسكر بقانون تأميم الصحافة في سنة 1960، فإن كان كونها قديمة يمثل مجدا، فالمجد لأصحابها!
غياب أطراف الجريمة في واقعة تهريب "شُحنة الكتب" إلى الدوحة، يؤكد أننا أمام قضية خائبة، هي من فعل سلطة تمثل "الخيبة الثقيلة" بامتياز، وكلما شعرت بالملل لعدم خضوع الدوحة للابتزاز وتقديم "الزر" كانت مثل هذه القضايا المضحكة لسخافتها، ومن باب أن شر البلية ما يضحك!
ويا أيها الانقلابيون البلهاء: إلهي تتحولوا إلى "شُحنة" ويتم شحنكم إلى الدار الآخرة!