ما إن أعلن عن فوز رجل الأعمال الجمهوري "دونالد ترامب" بالرئاسة الأمريكية حتى بدأت التحليلات حول سياساته، ولاسيما سياسته الخارجية الشرق أوسطية. ومن أهم الملفات الإقليمية التي تعرض لها محللّون في العالم، هو موقع إيران في ميزان السياسة الخارجية الترامبية، وطريقة تعامل الرجل مع طهران.
وفي هذا السياق، طرحت تساؤلات عديدة، منها، هل سيواصل ترامب دبلوماسية أوباما مع إيران، أم يعود بالعلاقة إلى أيام أسلاف أوباما، عندما كان يطغى عليها العداء الصريح، والتصعيد، والعقوبات، ورمي التهم من كل حد وصوب. ولعّل دول المنطقة بما فيها إيران نفسها، يبذلون أكثر من غيرهم جهدا في البحث عن إجابات مقنعة لهذه الأسئلة التي محورها: هل يشكّل دونالد ترامب تهديدا لإيران أم فرصة لها؟
في الإجابة على هذا السؤال، البعض يتبنى نظرية التهديد، مستشهدا بتصريحات لترامب، تُفسر أنها عدائية تجاه طهران، مثل أقواله خلال الحملة الانتخابية ضد الاتفاق النووي، ووعوده بإلغائه، وآخرون يتبنون نظرية "الفرصة"، مستشهدين بتصريحات له حول الأزمة السورية، التي فُسّرت أنها تميل لصالح النظام السوري الحليف لطهران، وأيضا تصريحاته حول روسيا ورئيسها، واحتمالات تحسن العلاقات الأمريكية الروسية في عهد ترامب، وارتدادات هذا التحسن الإيجابية على مجمل العلاقات الأمريكية الإيرانية المتأزمة.
هنا، قبل الخوض في غمار البحث، لا بدّ من القول أن استشهادات أصحاب النظريتين مبنية على تعامل انتقائي مع تصريحات ترامب، وتجاهل عوامل أخرى قد تكون أكثر أهمية من تلك التصريحات، حيث هي وحدها لا تقودنا بالضرورة إلى إجابات شافية لأسئلة ملحة، نستشرف من خلالها ملامح سياسة ترامب الخارجية، ومنها العلاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بالتالي في المحاولة للوصول إلى تصور إجمالي حول السياسة الخارجية لترامب بشكل عام، والعلاقة مع طهران بشكل خاص، لابد من النظر إلى جملة عوامل معا، منها ما يمكن أن تكون لصالح نظرية "التهديد"، أو ما يمكن أن تعزز نظرية "الفرصة".
عوامل تعزز نظرية التهديد:
1ـ "تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية حول الجمهورية الإسلامية الإيرانية"؛ بشكل عام كان يغلب على تلك التصريحات، طابع العداء والتحدي، وجلّها تقريبا كان من بوابة تجريح الاتفاق النووي، مع ذلك، ليس صحيحا اعتبار هذه التصريحات عاملاّ حاسما في استشراف سياسات ترامب تجاه طهران، وبناء التصور عليها فحسب، لأنه أولا هذه التصريحات ألقيت في ظرف زمني خاص أي الحملة الانتخابية التي سبقت الانتخابات، ومن الناحية الموضوعية، لا يمكن كثيرا البناء على تصريحات ووعود المرشحين في الحملات الانتخابية، إذ يغلب عليها طابع الاستهلاك لإعلامي، والتحدي للمنافس أو المنافسين، ثم أن كثيرا من وعود يقطعها المرشحون في حملاتهم الانتخابية، لا تتحقق على أرض الواقع بعد الفوز حيث لا يجدون إمكانية لتنفيذها، مثل وعود أوباما لإغلاق سجن غوانتانامو، وهو ما لم يتحقق أبدا، ثانيا، أن التناقض كان يغلب على تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية حول أكثر من موضوع، فعلى سبيل المثال، وليس الحصر، هو من ناحية، كان يهاجم الاتفاق النووي ويطالب بإلغائه، لكنه في الوقت نفسه، كان يعترض على استمرار فرض القيود على الشركات الأمريكية في التعامل الاقتصادي مع إيران، حيث انتقد منع شركة بوئينغ للطائرات في بيع طائراتها لطهران، بينما يُسمح لشركة إيرباص الفرنسية بذلك.
رغم هاتين الملاحظتين، يمكن القول أن طابع تصريحات ترامب تجاه إيران يُوصف بالعدائية والتحدي.
2ـ "تركيبة فريق عمل ترامب"، الذي يشبه "فريق حرب" إلى حد كبير، تغلب عليها خلفيات وتوجهات عسكرية، وعنصرية، ومعاداة الإسلام السياسي، مناهضة إيران، والميل للعمل العسكري من جانب واحد. فدراسة استقرائية لتركيبة هذا الفريق وهم حتى اللحظة، الجنرال المتقاعد في الجيش الأمريكي «مايكل فلين» مستشارا للأمن القومي، والسيناتور «جيف سيشنز» لمنصب النائب العام، والنائب «مايك بومبيو» مديرا لوكالة المخابرات المركزية، تظهر أن توجهاتهم بعيدة عن الدبلوماسية والسلمية، وتمثل هذه التركيبة عودة حادة إلى العقلية التي سادت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، حسب قول مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية.
لذلك لو دققنا في خلفيات من تم اختيارهم حتى هذه اللحظة كأعضاء في فريق عمل ترامب، نجد أننا أمام "فريق حرب" إن صح التعبير، فمعظم أعضاء فريق عمل ترامب حتى الآن هم من الجمهوريين المتشددين ومعظمهم لهم خلفيات عسكرية، ميول تصعيدية وعدوانية، فعلى سبيل المثال، يتبنى «مايكل فلين» التوجه القائل بأن التهديد الذي يواجه الولايات المتحدة هو «الإسلام الراديكالي»، الذي قارنه بألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وفي هذا الإطار، اتهم الرجل، الرئيس الأمريكي باراك أوباما بتقييد أيدي الجيش في الميدان، واسترضاء إيران.
كما أن "فيلن" يعتبر من منتقدي الاتفاق النووي الإيراني، ويسير على خطى المشرعين الجمهوريين في أن الولايات المتحدة بحاجة إلى اتخاذ موقف أكثر حزما مع طهران، بدلا من السعي إلى ذوبان الجليد الدبلوماسي.
ومن ناحية أخرى، وعلى سبيل المثال أيضا، يُشتهر بومبيو المرشح لرئاسة الاستخبارات المركزية بمواقفه اليمينية المتشددة. وكتب بومبيو في آخر تغريدة له عبر حسابه على موقع "تويتر"، الخميس 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أي بعد ترشيحه لهذا المنصب الذي يحتاج إلى موافقة الكونغرس، أنه يتطلع إلى "إلغاء الاتفاقية الكارثية مع أكبر دولة راعية للإرهاب"، في إشارة إلى الاتفاق النووي مع إيران.
عموما، ما بصدد قوله هنا، أن معظم أعضاء فريق عمل ترامب إن لم يك كلهم، متشددون في توجهاتهم تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، معارضون لنهج الرئيس أوباما في التعاطي الدبلوماسي مع طهران، والملفات التي تشكّل الأخيرة طرفا فيها.
3ـ "سيطرة الجمهوريين على الكونغرس" باعتباره المؤسسة الدستورية الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية، تعني أن التوجهات الجمهورية العدائية المتشددة تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هي التي ستقود طريقة تعاطي الكونغرس مع الشأن الإيراني خلال الفترة القادمة، وهذا يعني تبني نهجا أكثر عدائيا في مواجهة إيران في ظل وجود رئيس متشدد ينتمي إلى حزب الجمهوري. لذلك، على الأرجح أن يلعب الكونغرس دورا مكمّلا في مساعدة ترامب ضد طهران، وأن الكونغرس لن يجد حرجا، إن قرر إقرار عقوبات جديدة لأنه ببساطة لا يوجد "أوباما" ليستخدم حق النقض، وإنما الرئيس هو دونالد ترامب الذي يُستبعد أن يلجأ لهذه السياسة.
4ـ "دور المؤثرات الخارجية"؛ والمقصود منها، دور اللوبيات العاملة لصالح دول وقوى أجنبية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى رأسها اللوبي الصهيوني في التأثير على سياسة ترامب الخارجية تجاه إيران، هذا العامل أيضا إلى جانب العوامل التي ذكرناها، قد يشكّل عنصر ضغط لتوجيه هذه السياسة بما فيه مصلحة "إسرائيل"، واليمين اليهودي المتشدد، إذ لا يمكن أن تكون إيران متفائلة بتزامن وجود نتانياهو وليبرمن المتطرفين على رأس السلطة في "إسرائيل"، مع وجود أصحاب الميول المتشددة على رأس السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية.
كذلك، أضف إلى هذه المؤثرات الخارجية، دور اللوبي السعودي، في ظل وجود تقارير صحفية تتحدث عن تجهيز السعودية رزمة مالية (بالمليارات) لاقتراحها على "رجل الأعمال" دونالد ترامب لدفعه باتجاه التصعيد مع طهران والتشدد في التعامل معها. وربما تأتي الزيارات المكوكية لمسؤولين سعوديين خلال هذه الأيام للولايات المتحدة الأمريكية في هذا الاتجاه، حيث مؤخرا قام وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ومعه وزير الدولة محمد آل الشيخ بزيارتين للكونغرس خلال ثلاثة أيام فقط، ألتقى فيها بنواب بارزين في الحزب الجمهوري، على رأسهم، السيناتور جون ماكين، رئيس لجنة الشؤون العسكرية، والسيناتور أورين هاتش، رئيس لجنة الشؤون المالية، العضو الأقدم في مجلس الشيوخ".
5ـ "سايكولوجية شخصية ترامب"، تنبئ بأن "السلبيات" فيها أكثر من "الإيجابيات" سلوكيا أو تفكيريا، وهذا ما يمكن أن يجد له الطريق في سياساته، وخاصة في التعامل مع الآخر الأجنبي، عموما أننا عند تناول طبيعة شخصية دونالد ترامب وسايكولوجيتها، نجد أن لها سمتين بارزتين، هما:
أ: سمة التناقض والغموض، والتناقض كما معروف هو تلازم بين قضيتين يوجب صدق إحداهما وكذب الأخرى، فمن هذا المنطلق لا يبدو أن شخصية ترامب تتبع القاعدة المعروفة في علم النفس، التي تقول أن السلوك الإنساني هو الحاكم لمواقف الإنسان وطبيعته، لأنه نتاج التفاعل بين نوازعه الداخلية واحتياجات البيئة المحيطة به، وكما ضربت مثالا في هذا التناقض فيما يتعلق بالاتفاق النووي مع طهران، هنا أذكر مثالا آخر يدلّ على منتهى التناقض في شخصيته وتصريحاته، حيث قال عن الحرب على العراق: «كان لا يجب أن ندخل حربا في العراق، لكن ما دمنا دخلناها فلا يجب أن نخرج منها»
ب: سمة المفاجئة: من تتبّع أقوال ترامب وكتاباته، يجد أنه مشغوف باستخدام عنصر المفاجئة في تصرفاته وسياساته، ففي كتاب بعنوان "أمريكا العرجاء، كيف نعيد عظمتها من جديد؟" (Crippled America How to Make America Great Again)، يشرح كيف كان يحافظ على سرية تحركاته ومشاريعه الاقتصادية، ثم كان يفاجئ الجميع بها بعد البدء بتنفيذها، وعلى الصعيد السياسي أيضا يبدو هو يؤمن بمبدأ المفاجئة، إذ قال عن الهجوم على الموصل في تغريدة على "تويتر": «يتضح أن الهجوم على الموصل كارثة كاملة. أخطرناهم (تنظيم داعش) بالهجوم قبله بشهور. أمريكا تبدو بلهاء للغاية»
إذن، هذه السايكولوجية المبنية على التناقض والمفاجئة لا يمكن أن تكون مخرجاتها السلوكية والسياسية سليمة.
عوامل قد تعزز نظرية الفرصة:
1ـ "عدم قدرة ترامب على إيجاد إجماع عالمي ضد طهران"، إن فكّر في تبنّي سياسة مختلفة عن سلفه أوباما، ولاسيما إن حاول إلغاء الاتفاق النووي أو الالتفاف عليه بشكل واضح، حيث من شأن ذلك أن يغضب حلفاء واشنطن الأوروبيين، مما يدفع ترامب لتبني سياسة أكثر واقعية مع طهران، وإظهار سياسة مختلفة عن تلك التي كان ينادي بها خلال حملته الانتخابية.
2ـ "الاندفاع الترامبي نحو روسيا وبوتين"، مما قد يترتب عليه تحسن العلاقات بين واشنطن ومسكو، ويعود ذلك بالنفع لطهران، نظرا إلى العلاقة الوطيدة بين الأخيرة ومسكو، ولعلّ في هذا الإطار يأتي موقف ترامب تجاه الأزمة السورية، لصالح النظام السوري وعلى حساب المعارضة السورية، ولأن إيران أبرز حلفاء النظام السوري، قد فسّر البعض أن هذا الأمر لصالح إيران ويشكّل فرصة لها.
3ـ "الخلفية الاقتصادية لدونالد ترامب"، وما يمكن أن تلعبه هذه الخلفية في ترسيم السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة، مما قد يشكّل هذا الأمر، بوابة تفتح آفاقا جديدة في علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وخاصة أن ترامب نفسه أكثر من مرة لمّح إلى أن السياسة الخارجية عبارة عن مجموعة "صفقات اقتصادية"، بالتالي يمكن أن ينظر إلى الاتفاق النووي من منطلق اقتصادي، والعوائد التي قد يجلبها للاقتصاد الأمريكي وفق نظريته "أمريكا أولا"، فيقبل بهذا الاتفاق ويرفع القيود على معاملات الشركات الأمريكية مع طهران، إذن، هنا يظهر السؤال الأبرز: هل يمكن أن تشكل الدبلوماسية الاقتصادية مدخلا للسياسة الترامبية في التعامل مع طهران خلال عهده؟
فيما يتعلق بهذه العوامل الثلاث التي قلنا يمكن أنها تعزز نظرية أن ترامب قد يشكّل فرصة لإيران، يمكننا أن نقول: أولا، عجز ترامب عن إيجاد إجماع عالمي، يحسب لصالح طهران، لكن ذلك لا يعني أن هذا العجز ربما يمنع ترامب من اتخاذ سياسة عدائية إزاءها، وخاصة أنه رجل، أولا خارج السياق السياسي المعهود في داخل أمريكا، وثانيا قد نجده أيضا خارج السياق التحالفي الأمريكي المعهود في الخارج.
أما، عن مدى التأثير الإيجابي الذي يمكن أن يتركه أي تحسّن قد يطرأ على العلاقات الأمريكية الروسية على السياسة الأمريكية الترامبية تجاه إيران، وكذلك موقف ترامب تجاه الأزمة السورية، لا بد من القول أنه ليس بالضرورة إن حدث هذا التحسن في العلاقات الأمريكية الروسية أن يعود بالنفع للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد يحدث عكس ذلك تماما، حيث يمكن أن يساوم بوتين وترامب في سوريا على حساب النفوذ الإيراني، وكذلك يمكن أن تنظر روسيا إلى أن إضعاف إيران جارتها على بحر قزوين سيكون لصالحها على المدى البعيد، بالتالي التقارب الأمريكي الروسي إن حدث بالفعل ليس معناه تحسن موقع إيران في ميزان السياسة الأمريكية الجديدة، بل كما قلنا قد يحصل عكس ذلك، وأن يكون هذا التقارب على حساب إيران.
أما عن العامل الثالث، وهو العامل الاقتصادي الذي قلنا، يمكن أن يمثّل محفّزا لترامب لتبني دبلوماسية اقتصادية تجاه طهران، يُستبعد ذلك لأنه نظرا لعدم وجود علاقات رسمية بين البلدين، يصعب على طهران اغتنام هذه الفرصة، لدفع ترامب نحو التعامل اقتصاديا مع الاتفاق النووي، مما قد يقلّل بذلك من مخاطر وتهديدات قد تشكّلها الإدارة الأمريكية الجديدة ضدها. ثم، ومن المنطلق الاقتصادي قد توجد دول تكون مستعدة لدفع أكثر مما يمكن أن تجلبه واشنطن اقتصاديا من الاتفاق النووي، بالتالي يغلق هذا الطريق.
خلاصة القول، أن ما سبق ذكره في هذا المقال يدفع باتجاه القناعة أن احتمالات أن يمثّل ترامب تهديدا لإيران أكثر من احتمالات أن يكون فرصة لها، ويكفي أن يقدم ترامب بعد توليه المنصب رسميا في يناير القادم على خطوة، تعتبرها طهران ناقضة للاتفاق النووي لكي تبدأ الحرب الكلامية وردات فعل متقابلة، تؤدي إلى تصعيد الأمور وربما تصل إلى درجة خطيرة جدا.