بورتريه

الجريمة والعقاب.. دموع وغضب في شهادات "العدالة الانتقالية"

العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية
بأصوات يخنقها بكاء خافت كأنه حشرجات ما قبل خروج وصعود الروح؛ سرد ضحايا حكم الاستبداد في عهد الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي والحبيب بورقيبة، الانتهاكات الجسيمة والتعذيب الذي تعرضوا له طيلة فترة حكمه سيء السمعة.

جلسات عقدت لأول مرة بشكل علني في واحدة من أهم خطوات العدالة الانتقالية، بعد ست سنوات من انتفاضة أنهت حكم بن علي في كانون الثاني/ يناير عام 2011 لتكون الشرارة التي أشعلت الربيع العربي.

وبثت محطات التلفزيون المحلية والأجنبية مباشرة جلسات الاستماع العلنية لضحايا الانتهاكات، في خطوة وصفت بأنها تاريخية وكخطوة للمصالحة والمسامحة ومعاقبة الجناة.

جاءت مرحلة الاستماع العلني بعد أن استمعت هيئة "التحقيق والكرامة"، وهي هيئة دستورية مخول لها بتتبع ملفات ضحايا انتهكات حقوق الإنسان منذ الاستقلال وإلى غاية عام 2013، إلى حوالي 11 ألف ملف في سرية تامة، وراء أبواب مغلقة طيلة ثلاث سنوات.

من أدلوا ومن سيدلون بشهاداتهم في جلسات الاستماع العلنية لم يكونوا يمثلون أنفسهم فقط، بل "أجيالا كاملة من كل التيارات السياسية ومناضلي حقوق الإنسان، والصحفيين، والنقابيين، والطلاب"، وفقا لخالد الكريشي المسؤول في "هيئة الحقيقة والكرامة".

وهو ما اعتبرته "منظمة العفو الدولية" وفي بيان لها "فرصة تاريخية لوضع حد للإفلات من العقاب عن الجرائم الماضية (...) وانتهاكات الحقوق الإنسانية".

في جلسة الاستماع الأولى التي عقدت في ضاحية سيدي بوسعيد، في فضاء نادي عليسة الذي كان مملوكا لليلى بن علي زوجة الرئيس المخلوع، باعتباره المكان الذي كانت تقيم فيه ليلى وصديقاتها حفلاتهن الخاصة، يومي 17 و 18 تشرين الثاني/ نوفمبر قدم مواطنون شهادات تعرّضوا فيها للتعذيب في عهد المخلوع.

فيما أوضحت "التحقيق والكرامة" أن اليومين القادمين لاستكمال الاستماع للشهادات هما 17 كانون الأول/ ديسمبر المقبل، و14 كانون الثاني/ يناير المقبل، اللذان يصادفان ذكرى إحراق محمد بوعزيزي نفسه، وذكرى هروب بن علي من تونس، على التوالي.

في واحدة من الشهادات الأكثر إثارة للمشاعر وللغضب قدمت المناضلة التونسية بسمة بلعي شهادتها، وتحدثت بلعي التي كانت شاهدة أيضا على تعذيب رشيد الشماخي، وفيصل بركات، والتي أجبرت أيضا على مسح دمائه بعد مقتله تحت التعذيب.

وأشارت إلى أنها وفي عمر السابعة عشرة، عندما كانت تنشط في العمل الاجتماعي والإسلامي الخيري، انضمت لحزب "حركة النهضة"، لتبدأ فصل معاناتها مع البوليس السياسي والتربص بها وإرسال الاستدعاءات لها.

وأوضحت أنه تم اعتقالها من بيتها عام 1987 بمركز نابل، وتعرضت للتعذيب الجسدي والمعنوي (الضرب والشتم والكلام البذيء)، فضلا عن سب وشتم أهلها.

وفي سنة 1991، كانت محل ملاحقة أمنية؛ بسبب نشاطها السياسي، ليتم استغلال شقيقتها كورقة للضغط عليها، فتسلم نفسها وتقاد من العاصمة -حيث كانت مختبئة- إلى مسقط رأسها، في رحلة وصفتها برحلة "الإهانة والتحرش" والأطول في حياتها.

وذكرت أنه في مقر فرقة الأبحاث والتفتيش بدائرة نابل سيئة الذكر والتي شهدت العديد من الوفيات تحت التعذيب، حيث تم إيقافها بصحبة شقيقتها دون إذن قضائي، لمدة تجاوزت الشهرين، تعرضت خلالها للتعذيب والإهانة والتحرش، كما وقع تهديدها بالاغتصاب، وإجبارها على تنظيف الأغطية المخصصة للموقوفين المغطاة بالدماء، وبقيت حبيسة المعتقل لمدة عام كامل بتهمة الانتماء لحزب غير معترف به، وتوزيع مناشير.

وبعد فترة الاعتقال التي اعتقل فيها أيضا شقيقها وحوكم بأربع سنوات، أطلق سراحها، لتخضع للمراقبة الإدارية لمدة تجاوزت عشر سنوات، رغم أن الحكم الصادر ضدها لم يتضمن هذه العقوبة.

وتسببت الملاحقة والاعتقال لها ولأشقائها بابتعاد الناس عنهم خشية الاعتقال، لذلك لم تتمكن من الزواج هي وشقيقتها.

تقول بسمة والدموع في عينيها: "مت قهرا كل يوم على حلم الأمومة الذي لم أستطع أن أحلمه، وحسرة على والدي الذي توفي قهرا بعد خروجي من السجن بيوم واحد، ووالدتي التي ماتت نتيجة جلطة دماغية؛ بسبب الضغوط والمضايقات اليومية لأفراد العائلة".

وذكر متابعون للملف أن الإسلاميين كانوا يوضعون في زنازين مخصصة للشاذين جنسيا ويسلطون بعضهم عليهم بقصد التحرش الجنسي، بصورة أكثر بشاعة مما نقل للعالم عن فظائع سجن أبو غريب.

وفي شهادة مؤثرة تحدث الباحث براهم سامي عما عاناه في السجن لمدة ثماني سنوات في فترة بن علي، مما أبكى الحاضرين وخلق حالة واسعة من التضامن معه.

وقال سامي، الذي كان سجين رأي: "وضعونا عرايا لأسبوع كامل، أرادوا تدميرنا وراهنوا على إخصائي. الحمد لله لدي بنت جميلة تؤكد أنني انتصرت عليهم. كان الجلاد يضربني على رأسي ويقول لي سأخرج العلم من رأسك. لكنني أكملت دراستي بعد كذلك كي يؤكد انتصاري عليه. أحس بألم كبير لحبسي كل تلك المدة، أحس بالقهر وبإعاقة لإضاعتهم سنوات من حياتي".

وأصيب سامي ذات يوم بنوبة عصبية حادة نقل بسببها للمركز الطبي، حيث قام الطبيب بسكب مادة الإيثر الحارقة على عضوه الذكري في محاولة لإخصائه، وعند تدخل الممرض وتنبيهه الطبيب أن ذلك من شأنه أن يؤدي للوفاة صرخ بوججه قائلا: "وليكن.. لماذا يريد أن يعيش؟".

وخلال اليومين الماضيين للاستماع إلى الشهادات، برز دور بعض الأطباء في إصدار شهادات مزورة، ساهموا خلالها بإخفاء جرائم التعذيب بحق الناشطين، وهو ما دفع ناشطين للمطالبة بفتح جميع الدفاتر السابقة.

وبيّن ناشطون أن بعض الأطباء في حقبتي بورقيبة وبن علي كانوا يزورون أسباب وفاة الناشطين الذين قضوا تحت التعذيب، ويضعون أسبابا أخرى غير حقيقية.

حركتا "أطباء ضد الفساد"، و"أطباء ضد الدكتاتورية"، طالبتا بالمتابعة الحثيثة، وتتبع جميع الأطباء المتورطين في هذه القضايا، وبيّنت الحركتان أنه من الواجب متابعة شهادات الضحايا وذويهم، والتحقيق مع أي طبيب يرد اسمه في هذه الشهادات.

وكانت غاية إدارة المعتقلات بالنهاية بحسب شهود عيان ومتابعين، هي خروج المعتقلين إما مختلين عقلا أو مصابين بنوبات عصبية تفقدهم القدرة على مزاولة حياتهم بصورة طبيعية، أو قتل روح المروءة والعزيمة والعمل العام مستقبلا.

ويقول المسؤول في "هيئة الحقيقة والكرامة" أن كل الشهادات التي سيتم الاستماع إليها بشكل علني على غرار الشهادات الأخيرة هي عيّنات حيّة من جملة حوالي 63 ألف ملف لضحايا الانتهاكات كما تمثّل حوالي 11 ألف جلسة استماع سرّية عقدتها الهيئة خلال الفترة الماضية.

ورأت رئيسة "هيئة الحقيقة والكرامة" سهام بن سدرين، أن جلسات الاستماع التي ستخصص لـ"ضحايا الاستبداد" تهدف إلى "إيصال المعلومة إلى الرأي العام وتوثيق الحقيقة قصد إنصاف الضحية ومحاسبة المنظومة، لا محاسبة الجلادين والانتقام منهم".

وأوضحت أن كل واحدة من جلسات الاستماع ستتضمن بين 4 و5 شهادات للضحايا غيرهم، عملا بشعار "لا صوت يعلو فوق صوت الضحية"، على أن تدوم كل شهادة بين 30 و40 دقيقة.

ولاحظت بن سدرين أن عقد الجلسات العلنية والسرية لـ"ضحايا الاستبداد" الذين تقدموا بملفاتهم، على أساس تعرضهم لانتهاكات من قبل النظام خلال الفترة الممتدة بين 1955 و2013، يعد من الواجبات الموكولة لـ"الهيئة"، كاشفة أنه تم عقد 10 آلاف و800 جلسة استماع سرية، تراوحت بين ساعتين و3 أيام للبعض منها، من جملة أكثر من 63 ألف ملف تم إيداعها لدى الهيئة وأن الانتهاء من هذه الجلسات يفترض أن يكون في حزيران/ يونيو 2017.

من جانبها توضح مديرة المكتب التونسي للمركز الدولي للعدالة الانتقالية سلوى القنطري حول الجهة المهنية بالشهادات وتقول: "هذه الجلسات موجهة للضحايا كما هي موجهة لشريحة من المجتمع التي لم تكن ضحية بقدر ما كانت منسية".

وهذه ليست التجربة الأولى في العالم العربي حيث سبق للمغرب أن نفذها في عام  2004 على طريقته لكي يطوي سنوات  كانت مخيفة تحت حكم الملك الحسن الثاني والد الملك الحالي محمد السادس.

 ورغم أن الملك محمد السادس كان يدرك بأن " العدالة الانتقالية" ستكون محاكمة مباشرة وجذرية لفترة حكم والده، إلا أنه سمح بها لأنه أدرك أنها الأسلوب الأفضل لتجاوز الماضي بكل أحزانه وعوائقه والدخول في مرحلة جديدة، وفتحت هذه التجربة الباب لمراجعات هيكلية ودستورية مما سمح لنظام الحكم في المغرب بأن يؤسس ثقة جديدة مع النخب والشعب، وهو ما ساعده كثيرا على امتصاص ارتدادات ثورات الربيع العربي، وكي تُطوى حقبة عصيبة في تاريخ المغرب (1956 ـ1999)، تواتر المغاربة على نعتها بـ"سنوات الرصاص".

في تونس ينتظر المواطنون سماع أصوات الجلادين أو المتهمين بالوقوف وراء الانتهاكات التي وقعت طيلة السنوات التي سبقت هروب الرئيس المخلوع بن علي. ففي الحالة المغربية اعترف الكثير من هؤلاء، لكن لا يعرف إلى حد الآن هل سيجرأ الجلادون في تونس على مواجهة ضحاياهم، ويعترفون بما نسب إليهم ويطلبون منهم الصفح.

ورغم مرور نحو خمس سنوات على هروب بن علي، إلا أن "هيئة الحقيقة والكرامة" لم تحصل بعد من وزارة الداخلية على "أرشيف التحقيقات مع المعارضين"، خصوصا في عهد بن علي، وفقا لسهام بن سدرين.

وفي غياب أرشيف الداخلية، سيكون من الصعب إثبات تعرض أشخاص للتعذيب لأن آثاره لا تبقى بمرور الزمن، بحسب ما أفاد صلاح الدين الراشد عضو الهيئة.

ولا تقف وزارة الداخلية صامتة أمام ما يقال، فقد وصف رياض الرزقي الناطق الرسمي باسم "النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي" (النقابة الرئيسية لقوات الأمن في تونس) العدالة الانتقالية في تونس بأنها "عدالة انتقائية وانتقامية بامتياز تم اختصارها في وزارة الداخلية"، مضيفا في تصريحات صحافية أنه كان من "مؤسسي مركز تونس للعدالة الانتقالية بعد الثورة" وأوضح: "في البداية كنا نريد إقامة عدالة انتقالية حقيقية بالاستئناس بالتجارب الدولية لكن تم الالتفاف على هذا المسار بعد دخول الأحزاب السياسية على الخط، فانسحبت من المركز".

وفي نظر الرزقي فإن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين التي كانت معارضة بارزة لنظام بن علي وتعرضت لمضايقات أمنية في عهده، شخصية "مسيّسة" و"ليست طرفا محايدا"، و"تكن حقدا دفينا لجهاز الأمن"، لذلك فهو لا يعتقد أنها الشخص المناسب لإدارة  الهيئة المسؤولة عن عملية العدالة الانتقالية.

موقف "الداخلية" ربما يكون جزء من حملة قادمة تشوه هذه الشهادات فبعض ضحايا التعذيب أشاروا لمرحلة كان فيها الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي وزيرا للداخلية ومن بين هذه الشهادات، شهادة الكاتب المعروف والمهندس واليساري التونسي جلبار نقاش، حيث كان يعذّب عن بُعد بضعة أمتار من مكتب مدير الأمن الوطني أنذاك السبسي.

لكن أنطونيو مانغيلا، عضو جماعة محامين بلا حدود، ومقرها الولايات المتحدة، قال إن الهيئة تواجه تحديات: "ما زال هناك الكثير من الممانعة من قبل مؤسسات الدولة للتعاون مع الهيئة".

موقف "الداخلية" لم يمنع وزير العدل ووزير التعليم العالي في فترة حكم نظام زين العابدين بن علي، الصّادق شعبان، خلال مشاركته في برنامج إذاعي في إذاعة "ديوان أف أم"، من تقديم اعتذاره لضحايا الانتهاكات في الفترة السابقة.

واعتبر شعبان أن ما حصل خطير، ويدعوه على المُستوى الشخصي لأن يعتذر لمن قُتلوا وذويهم ولمن تعرضوا للتعذيب، رغم تأكيده على أنه لم يكُن طرفا مُباشرا في هذه الانتهاكات.

وأضاف: "لا أعتذر لأني قمت بشيء مُخالف للقانون، أبدا، بل أؤكد أنني وأغلب القيادات لم نكن على علم بهذه التفاصيل، ولكن أعتذر لأنني كنت جزءا من النظام وليس من الرجولة أن أتملص من انتمائي لهذا النظام".

وتابع: "أعتذر لكل من تعرّض لهذه الانتهاكات، وهذا هو أساس العدالة الانتقالية، أعتبر أن هناك أخطاء حصلت ويجب أن نتجاوزها وأن نبني الجديد".

وتأمل الهيئة في أن يسامح الضحايا معذبيهم المزعومين. ولكن الكثير من الضحايا طالبوا بتعويضات مادية، وقالوا إن المتهمين يجب محاسبتهم قضائيا.

وقالت الهيئة إن المتهمين قد يسمج لهم بالإدلاء بشهادتهم في المستقبل القريب.

سامي براهم، الذي نال نصيبه من المهانة والخزي والتعذيب المعنوي والجسدي، توجه بنداء مؤثر إلى جلاديه بطلب الغفران، وأن يمثلوا أمام الهيئة ليقدموا تفسيراتهم ومبررات عن أفعالهم الشنيعة لتطوى صفحة سوداء من تاريخ تونس؛ لافتا في سياقه إلى أن هروب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي نزل على قلبه "بردا وسلاما".

هل يعترف الجلادلون بجرائهم ويتوسلوا المسامحة والمغفرة حتى ينزل ذلك على قلوب الضحايا وعائلاتهم "بردا وسلاما"؟!
التعليقات (0)