بفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية تدشن الولايات المتحدة مرحلة جديدة من تاريخها السياسي، ويدشن معها العرب مرحلة قد تكون جديدة من واقعهم المعاصر المتحرك على وقع الفوضى العارمة التي تخترق المنطقة. لكن هل يمكن الجزم بأن الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين يملك من الأدوات ومن موازين القوى ما يستطيع عبره أن يحدث تحولا في السياسة الخارجية لبلاده خاصة ما يتعلق منها بالملفات الخارجية العربية الحارقة؟
يقوم تاريخ الجمهوريين فيما يخص القضايا العربية على التقاليد التوسعية للإمبراطورية الأمريكية التي ظهرت جليا في عهد رونالد ريغن 1981- 1989، وبوش الأب 1989- 1993 وبوش الإبن 2001 -2009، ومختلف الحروب والتدخلات العسكرية التي خلفتها مغامراتهم خاصة عبر غزو العراق واحتلاله بما هي النقطة التي بدأ معها الشرخ الكبير في المشهد العربي. لكن من جهة مقابلة لا تمثل الممارسة السياسية للحزب الديمقراطي فعلا وممارسة أقل عدوانية فهي ليست سوى تطبيع وتقنين للفعل التوسعي المباشر للحاكم الجمهوري فالديمقراطيون يضعون المساحيق المجمّلة للممارسات الجمهورية ويضفون عليها الشرعية اللازمة.
بناء على التوزيع السابق انقسم الموقف العربي القاعدي من فوز ترامب ـ خاصة على موقع التواصل الاجتماعي ـ إلى قسمين أساسيين: يرى الأول في فوز الرئيس الأمريكي الجديد خسارة كبيرة للعرب والمسلمين وزلزالا جديدا يهز الواقع المهتز أصلا بسبب التصريحات العنصرية للرئيس الجمهوري وهي تصريحات لا تخفي كرهه للعرب والمسلمين بشكل خاص. وليست وعوده بالاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل إلا أحد المؤشرات على ما يحمله الرجل من مشاعر ضد العرب وقضيتهم الرئيسية فلسطين.
أما القسم الثاني فيرى أن فوز ترامب وتصريحاته ومواقفه إنما تمثل الوجه الحقيقي للسياسة الخارجية الأمريكية وهو ما يمكن أن يعرّي بشكل كاف المشاريع الأمريكية في المنطقة وينزع عنها قناعها الديمقراطي. فوزُ التيار المحافظ هو تحويل المواجهة مع العرب ومع قضاياهم إلى مواجهة مباشرة قد تفيد العالم العربي والمسلمين بشكل عام بأن توحدهم وتوقظهم من سباتهم الذي طال.
الرأيان لا يخلوان من الموضوعية في تقييم الرئيس الأمريكي الجديد لكنهما من ناحية أخرى لا يستحضران معطيات أخرى كثيرة على الساحة الدولية التي لم تعد نفسها خلال الغزو الأمريكي للكويت وحتى قبله. فالحضور الروسي الفاعل في المشرق العربي وصعود قوى جديدة في المنطقة كتركيا وإيران وتمدد الاقتصاد الصيني يضاف إليها الوضع الاقتصادي المنكمش للولايات المتحدة نفسها كلها عوامل لن تجعل المغامرات العسكرية الأمريكية القادمة بنفس سهولة سابقاتها.
لقد قدم الإعلام العربي والعالمي في جزء منه المرشح الجمهوري والرئيس الأمريكي الجديد على نحو انفعالي يضعه في موضع الرجل العنصري الخطير خاصة بعد تصريحاته الأخيرة ضد العرب والمسلمين والمهاجرين بشكل عام. لكن بقطع النظر عن الإطار الاستهلاكي الانتخابي لهذه التصريحات وبقطع النظر عن كونها تعكس قناعات ذاتية أم لا فإن السؤال يتعلق بمدى قابلية هذه التصريحات للتطبيق الفعلي.
فهل يمكن مثلا التمييز بين ترامب وبوش الابن على مستوى التصريحات أو على مستوى الملامح العامة للشخصية؟ يصعب ذلك فالقواسم المشتركة بين الرجلين كبيرة إلى درجة تسمح بتوقع نفس الفعل السياسي لكن الوضع المشرقي الملتهب واشتداد حالة الاحتقان الطائفي والمذهبي والقومي تجعل المنطقة قابلة للاشتعال الذي لن يتوقف. زدْ على ذلك أن كثيرا من الوعود الانتخابية التي قطعها الرئيس الأمريكي على نفسه خلال حملته الانتخابية تبدو غير قابلة للتطبيق إجرائيا مثل بناء جدار عازل بين بلاده وبين جاره الجنوبي وهو جدار ستتكلف بدفع نفقات بنائه دولة المكسيك نفسها.
لكن من جهة أخرى ألا يمثل فوز ترامب تأكيدا لنزعة سياسية تجتاح العالم الغربي عموما وتدفع به نحو الاتجاهات السياسية المحافظة إن لم نقل اليمينية المتطرفة أحيانا كثيرة؟
إن هذه النزعة السياسية التي لا تخطؤها العين خاصة في النطاق السياسي الأوروبي قد سبقت وصول ترامب إلى السلطة وهي نزعة تؤكد واقع الأزمة الاقتصادية والسياسية التي يعيشها الغرب ككتلة حضارية بشكل عام.
إن المواقف العنصرية الأخيرة من المهاجرين وانتشار ظاهرة الاسلاموفوبيا وانكماش المجتمعات الغربية على نفسها ـ مثلما أكد ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مؤخرا ـ كلها دلائل على تحول كبير في السياسة الدولية يتجاوز مرحلة الرخاء الاقتصادي واستنزاف المستعمرات القديمة إلى مرحلة من الانكماش والتقوقع بعد صعود اقتصاديات عملاقة مثل الاقتصاد الصيني. من جهة أخرى مثل التحول الأخير في السياسة الروسية نحو أقصى اليمين كما عبرت عن ذلك سياسة الرئيس فلاديمير بوتين محفزا للسياسات الغربية لتحذو حذوه وليس ثناء رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي مارين لوبان على روسيا بوتين إلا خير دليل على ذلك.
لم يبق للعرب اليوم من خيار سوى خيار الذات والتعويل عليها وليس هذا في الحقيقة خيارا بل هو المخرج الوحيد للمنطقة العربية التي تعصف بها الأزمات ويتهددها التفكك والانقسام. فالتعويل على هذا المرشح أو ذاك وعلى سياسة هذا الحزب أو ذاك ليست إلا تصديرا للمشاكل ودفنا لها في التراب عوض مواجهتها وتفكيك ألغامها. لن تكون المنطقة العربية في منأى عن المغامرات الأمريكية العسكرية مجددا لكنها عليها أن تواجه هذه المغامرات متحدة إن أرادت الخروج بنفسها وبدولها سليمة وبأخف الأضرار لأننا نحصد اليوم سنوات من التيه ومن تأجيل الفعل ومن مباركة الانقلابات ومن سلوك النعامة حتى انفجر المشهد العالمي في وجوهنا. اليوم إما أن نكون أو أن لا نكون مهما كان اسم الرئيس الأمريكي.