لست أنا الوحيد الذي يراقب الانتخابات الأمريكية. أظن أن العالم برمته، والشرق الأوسط على الخصوص، مهتم بهذه الانتخابات، وكلما اقتربنا من الثامن من تشرين الثاني يزداد خفقان قلوبنا، ولكن المتتبع لهذه الانتخابات ولا سيما من خلال الإعلام الأمريكي، كما هو شأني، لا بد أن يصاب ليس بالذهول بل بالغثيان.
هناك نفاق سياسي واضح ليس لدى هيلاري كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي، ولا لدى دونالد ترامب، مرشح الحزب الجمهوري ومناصريهما من السياسيين وأصحاب المال والشأن وحسب، أي قراءة متعمقة مثلا للخطاب الذي تنقله لنا الوسائل الإعلامية الأمريكية يشير إلى أن الصحافة هناك أيضا صارت مرتعا للازدواجية والنفاق وعدم الموضوعية.
وهنا أتحدث عن وسائل إعلامية رصينة لها تاريخ مشرف في التغطية النزيهة لأغلب الأحداث التي تتعامل معها.
كنا نتصور أن قناة فوكس نيوز قد ضربت رقما قياسيا في القذارة من خلال خطاب فئوي ومتحزب ومتحيز ومجحف.
وربما لم يدر بخلد أي أستاذ للإعلام وتحليل الخطاب أن المثالب التي يعزونها إلى التغطية الإخبارية المتحيزة والمتحزبة لقناة فوكس نيوز ستصبح بمنزلة نبراس تقلده الوسائل الأخرى.
وإذا بنا لا نرى فرقا شاسعا بين ما تنقله قناة فوكس نيوز من مديح وموقف مساند للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، رغم شبقه وعنصريته وكراهيته للمختلف عنه، وما تنقله قناة "سي.إن.إن". أو جريدة "نيويورك تايمز" من مديح وموقف مساند للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، رغم فسادها ونفاقها.
وقبل كتابة هذا العمود عرجت على المواقع الإخبارية هذه ورأيت العجب العجاب. الإعلام المساند لترامب لا مكان فيه لتحرشه وتاريخه المشين وكلامه البذيء وقذاراته، والإعلام المناصر لكلينتون لا مكان فيه للكذب والمراوغة والفساد والنفاق الذي يتراكم يوما بعد يوم لما يتم تسريبه من مراسلات وما تم حتى الآن معرفته عن عشرات الملايين من الدولارات التي جمعتها هي وزوجها بطرق قد لا تقبل بها أي دولة لها ذرة من الديمقراطية.
لقد ضربت هذه الانتخابات وطريقة تغطيتها في الإعلام الأمريكي رقما قياسيا في النفاق لا بل القذارة والتحيز وفقدان النزاهة والموضوعية.
إنها "العبثية" بحد ذاتها التي يجب على الناخب الأمريكي الذي يتوجه إلى صناديق الاقتراع التعامل معها. والعبث والعدم لا يجعلان الخيار صعبا حتى وإن كان ما تختاره له من الشر ما لا يستحق الخيار.
انعدمت كل الخطوط الحمراء في هذه الانتخابات وفي دولة لم يشهد التاريخ لها مثيلا في سطوتها وقوتها العسكرية والاقتصادية والفكرية والعلمية والسياسية والإعلامية. أي قراءة متعمقة لتاريخ وخطاب هذين المرشحين - واحد منهما سيقود العالم وليس أمريكا وحسب - ستظهر لنا أنهما عديما الفكر النير ولا اعتبار لديهما لأي خطوط حمراء حتى تلك المتعلقة بالأخلاق العامة.
في أي ديمقراطية سليمة، ربما كان المرشحان يقبعان وراء قضبان السجن لما اقترفاه ولما تفوها به.
ما يقض مضجعي هو أن عالمنا الأمريكي -هذا هو الوضع شئنا أم أبينا- يمر بلحظات كالحة. لماذا؟ لأن السلطة الرابعة -الإعلام الموضوعي- التي كنا نتصور أنها حارسة وحامية الحرية والديمقراطية جرفها المرشحان وصارت إما مع أو ضد.
انظر إلى الهوة السحيقة بين أمهات الوسائل الإعلامية في تغطيتها للمرشحين حيث تقف مثلا "فوكس نيوز" في واد وتقف "سي.إن.إن"، و"نيويورك تايمز" في واد آخر.
كم كانت الصفحة الرئيسة في "نيويورك تايمز" مقززة عندما أعلنت بالبنط الكبير وفي أعلى صدر صفحتها الأولى فوز كلينتون ونحن على مسافة أسبوعين من الانتخابات استنادا إلى استطلاعات الرأي التي يبدو أن تنبؤاتها قد تصح.
وكم كانت "فوكس نيوز" مقززة عندما أعلنت أن حظوظ ترامب في الفوز بادية للعيان أيضا استنادا إلى استطلاعات الرأي الخاصة بها.
مهما يكن من أمر، فإن الناخب الأمريكي الذي سيدلي بصوته لن يختار الأكفاء والأكثر نزاهة وحكمة بل سيختار أهون الشرين في رأيه.
اختيار كلنتون سيكون في الغالب من الذين يشمئزون من ترامب. اختيار ترامب سيكون في الغالب من الذين يشمئزون من كلينتون. الاختيار في الغالب لن يكون لأن المرشح جيد وسيقدم خدمة جليلة للناخبين، بل لأنه أقل شرا في نظر الناخب من الآخر.
السنون الأربع المقبلة ستكون قاسية على أمريكا والعالم، لأننا ربما سنكون وجها لوجه أمام ديمقراطية الكاوبوي.
الاقتصادية السعودية