لنا، نحن المصريين، مع "التوكتوك" ذكريات لا تحصى، كما أن لنا مع سائقه الأخير آلام أخرى، نسأل الله السلامة منها، ولأنه وقت أزمة؛ وأي أزمة بل محنة، أيضاَ، سنمزج بين الأمرين ونبدأ من خط النهاية!
ترى ما شعور الذي سمع بخبر سائق "التوكتوك" الأخير وردود الفعل حوله ثم رآه.. بعد كل هذه الضجة حوله؟!
كنتُ قد تجاهلتُ الأمر حتى نما واستشرى ظهيرة الخميس الماضي، وصاحب هذه الكلمات يراقب ردود الفعل في صمت، ورحتُ أسأل نفسي مراراً وتكراراً:
ـ ترى هل سيكون الفيديو الذي يتحدثون عنه على مستوى كلماتهم على أي نحو.. أم أن في الأمر خدعة جديدة هي كـ "المقص" يقطع في آمال الجميع ويصب في نفس الوقت في صالح وصف الانقلاب؟
أما فكرة المقص فقد علمتها الحياة لي منذ قرابة ربع القرن لمّا ودعت بلدتي، التي كانت جنّة في قلب مصر الوسطى، ويمّمت شطر العاصمة القاهرة، ثم عاصمة خليجية أخرى، وأخيراً أخرى تاريخية لبلد مسلم؛ وفي كل مرة كانت الفكرة تزداد عمقاً لدي، إن الأنظمة المستبدة العربية وعلى جبينها النظام المصري يتعمد أن يبث في روح مواطنيه بعضاً من الأمل المزيف من باب مقولة "علي بن أبي طالب"، رضي الله عنه: "كلمة حق أريد بها باطل".
أحد أطراف المقص رجل، ربما يكون صاحب فكرة أو حجة ومنطق، او حتى خبرة علمية أو قلم وربما كاميرا، وأحياناً مختبر وجراحة.. يتعمد نظام الظلمة ممن حلقوا فوق سماء مصر طويلاً استقطاب أحدهم ليداروا به عوراتهم وجرائمهم، وطرف المقص الآخر وسائل الإعلام التي "تلمع الأمر" حتى يدخل على المواطن العادي بل المثقف وشبيهه، أما المسمار الذي يربط بين طرفيّ المقص فهو رضا صاحب الإنجاز بما تفعله الدولة به وبإنجازه.
فكرة سقط فيها من قبل، مع الاحترام للمُتوفين منهم والإجلال لنافع إسهامهم: الدكتور "مجدي يعقوب"، "أحمد زويل"، "نجيب محفوظ"،"يوسف شاهين".. وآخرون يضيق بهم المقام.
ولكن مع تطور الأمر، وسقوط أحلامنا في نجاح الثورة المصرية إلى حين على الأقل، تطورت الأمور إلى ما هو أسوأ، فلم تعد الدولة الانقلابية تستعين بعلماء حقيقيين أو فنانين وكُتّاب.. لتغطية إجرامها وطوفان الدماء الذي تنغمس فيه من أعلى قمتها إلى أدنى "هامة" فيها، بل راحت تستعين ببالغ البسطاء والمُعوزين في سبيل ذلك، بعلمهم وربما بدون ذلك، وهكذا تاريخ تطور السقوط، فالقمم التي ذكرت أسماءها سابقاً نضجت واستوت فكرياً وذهنياً وفنياً في أيام الملكية أو بداية حكم العسكر منذ عام 1952م، ولكنها أتت ناضج ثمارها أيام حكم مبارك، أما فترة حكم الأخير فقد أثمرت بسطاء عانوا وكدحوا ولم يلقوا إلا خيبة الأمل ليتلقفهم الانقلاب متلاعباً بهم بقصد أو بدون.
على أن السؤال الرئيسي الذي تبقى لدى صاحب هذه الكلمات إثر مشاهدته الفيديو، ومراقبة تداعياته بعين الحذر الذي يكاد يهتف:"العبوا غيرها"، إذ لم يعد السؤال المهم لدي: هل صاحب الفيديو مستأجر أم شريف؟ وإن كنتُ أعرف أن كبار الإعلاميين، من أمثال مستضيف الشاب لا يفعلون شيئاً لله، أو لوجه الوطن أو البسطاء أو المُعوزين بل إنهم يُمثلون أحد حلقات المقص السابق الذكر لاستثمار الآلام في التنفيس عن الناس دون تحقيق شىء يُذكر على أرض الواقع مما يصب في النهاية في "خانة" خداع المواطن لا أكثر.
ثم ماذا بعد؟
هذا هو السؤال الأبرز الذي قفز إلى ذهني بعد مشاهدة الفيديو، فكما برز الكائن الغريب المسمى بـ"التوكتوك" إلى بلدي "بني مزار" في قلب الصعيد الأوسط، وإلى القاهرة منذ سنوات بعيدة، ومنذ فرض سائقون له أنفسهم على حياتنا باحترامهم، وأحياناً بغير هذا، وكما ذكر الرئيس "محمد مرسي" سائقيّ "التوكتوك" في أول خطاباته بالخير، وطاردتهم الدولة بالضرائب وعدم الاعتراف بهم في عهد الانقلاب.. خرج علينا سائق "التوكتوك" الأخير بقمة فيديوهات الاعتراض التي تحاول أن تبدو عفوية، ولكن الشاب حاز على المرتبة الاولى بالفعل في الفيديوهات بعد الانقلاب حتى إنه ليغطى على عمل آلاف الساعات من بث القنوات المسماة بالشرعية في تركيا من ناحية، ويضرب إعلاميين يصرون على أنهم سيسقطون الانقلاب، ومن ناحية أخرى يسمعه المواطن البسيط الذي يرجو السلامة في مصر، ولا يستطيع فتح فمه شاعراً أن هناك الذي يعبر عنه فلا داعي لأن يفتحه، ثم إن الفيديو استفاد هذه المرة من أقصى قدر من امكانية البث التلفزيوني ومواقع التواصل الاجتماعي معاً، وهو ما لم يتحقق لغيره على هذا النحو من قبل، بخاصة إذا ما أضفنا إلى السياق، دخول امر الفيديو على الملايين؛ ثم "التخديم" عليه بعشرات الأخبار عن صاحبه وإخوته البنين والبنات.
أما السؤال الحقيقي: هل مصر تحتاج اليوم إلى سائق "توكتوك" يحسن توضيح أوجاعها، وجميع الذين في مصر والخارج يدرون بهذه الأوجاع لا بالعلم بل بالأم والفعل؟ وإن المعاناة لأقوى بملايين المرات من العلم.
لقد كنا وما نزال في قلب هذه المتاهة التي نحياها بين نزاعات النخبة العلمانية واستقواءاتها بالعسكر، إلا من رحم ربي وهم قليل، وبين خلافات الإخوان واستقوائهم بالفُرقة، بخاصة القيادات، اللهم إلا من رحم ربي وهم كثيرون لكن مغلوبين على أمرهم.
وفي ظل حكم السيسي الذي يتعمد أن يبدو أكثر بلاهة من تابع على "توكتوك" كل مهمته أن "يُحصل" الأجرة فيما أفعاله تقارب نازية "هتلر"، في ظل هذه "المهازل" كنا نتمنى أن ينعم الله علينا ولو بسائق "توكتوك"، وقد كان الراحل الدكتور "أحمد زويل" قد أعلن عن رغبته في الترشح للرئاسة مؤخراً فانقلب العسكر عليه حتى نفى الأمر، وهكذا من الدكتور "زويل"، مع الفارق، وإن اختلفنا معه في بعض مواقفه.. إلى أي شاب عادي يمتلك وعياً وجرأة ويستطيع أن يقود الملايين في مصر إلى حل عاقل يحقن الدماء ويحفظ علينا بلدنا قلب ونبض الأمة..
إننا لننتظر ولو سائق "توكتوك"، مع الاحترام، شريطة ألا يحدثنا عن واقع مصر بل يقودنا إلى حراك، أياً ما كان، يخلصنا من اللحظة الحالية، فضلاً عن ألا تكون كلماته مقصاً يقطع في لحم آمالنا بتغيير الواقع البالغ المرارة، ويحقق البقاء للانقلاب أكثر، ثم تنسى كلماته بعد حين.