تظل
مصر "رمانة ميزان الأمة" الذي يشير لموقعها الحضاري رفعة أو
انتظارا حتى حين، كانت كذلك خلال التحديات الكبرى عبر التاريخ وستظل حتى تعود لها
مكانتها. من هنا جاء دور ثورة 25 يناير، ومن قبل محاولة النهضة التي حاولت
البعثات التي أرسلها محمد علي إرساء أبرز ملامحها؛ خاصة مع ازدهار تلاميذها في
الفكر والفن والعلوم في القرن الماضي، وهو ما تلاقى مع الطرف اليانع من ثمار
المجدد الإمام حسن البنا، فأحدث صورة تحاكي نموذجا مصغرا لما نتمنى أن تكون
الكنانة عليه في مستقبل مشرق للأمة ولقلبها مصر.
ولكن -وآه من قسوة لكن في مثل هذا السياق المُنتظر لكثير من الإشراق-، أصيبت
مصر والأمة بخيبة أمل مرهقة أضنت أرواح الملايين؛ لعدم قدرة المخلصين على حسن
إدارة دفة الحكم أو الدفع باستمراره ثوريا، وكان أن اختلطت الأرواق والتصورات
والمفاهيم، فظن كل طرف وطني أن أوان تمكينه أوشك أن يتحقق، وانتظروا جني الثمار في
وقت كان يمثل مخاضا مرهقا، يتطلب المزيد من الثبات ودفع المندسين والأغبياء.
وبعد عشر سنوات وأشهر ثلاثة من تراجع محاولة المد الثوري
في مصر، وبالتحديد في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، استعر صراع الأمة الوجودي
الحضاري اليوم مع الكيان الصهيوني، فقد جاء السبق الحمساوي مباغتا من حيث أراد
العدو الاحتفاظ بالمفاجأة، ومن ثم معلنا عن بدايات زوال الصهاينة عن فلسطين، وإن
استغرق الأمر سنوات وعقودا، لكن استواء الصراع مع العدو ورغبة الأخير في التخلص من
المقاومة وبيئتها الحاضنة، التي خَيّل إليه مرضه وتعجرفه أنها في غزة أولا،. هذا
الاستواء الصراعي الوجودي لم يواكبه للأسف المرير نضج أو حتى شبهه من جانب
المعارضة المصرية أو مقاومي النظام السلميين!!
قادت مصر منارة الإفاقة للأمة بالبعثات في القرن التاسع عشر، استوى زرعها
في القرن التالي، جاء البنا بمنارة تصور لنهضة يقودها الدين؛ أصاب في بعضها وأخطأ
في الآخر، ولم يجد منهجه مجددا من بعده للأسف، وعاشت الكنانة تبعات الموقفين
الرائدين طويلا وأضاءت شموع الحياة والدين، وإن لم يخل الأمر من أخطاء وخطايا
باهظة التداعيات.
تلفتت الأمة منذ سنوات باحثة عن دور رائد مركزي جديد لمصر، لكن عِظم الموقف
وعدم القدرة على مواجهة التحدي في 2012م بما يناسبه من تجرد وتفانٍ في تقديم مصلحة
الوطن والأمة على النفس؛ قاد لانتكاسة شاملة أدت لمحاولة محو كل ما كان من دور
محوري. ويكفي ما نراه من هجمة على كل ثابت ومركزي مصري يتجاوز الحد من حرية
الأفراد البارزين في الوطن؛ بمحاولة تكبيله لما شاء الله بقيود يصعب التحرر منها
لسنوات طويلة مقبلة.
أما المستبدون الطغاة، فلا فائدة من مخاطبتهم ولا نفع من تمني إفاقة لهم،
وأما الجانب الآخر من المشهد فمن اللائق تذكيره بدور تاريخي إن غاب عنهم قام به
آخرون، وتلقفتهم من بعد ألسنة التاريخ بمعاول هدم وانتقاد، ويبقى -أمام المتخاذلين-
أنهم لم يحسنوا لا أمام ربهم ولا ضمائرهم ولا رفاقهم المضارين ولا أمتهم، يُضاف لهذا
أن عشرات السنوات تنتظر ليأتي قادرون على الإمساك بزمام مبادرة من بعد!
إن أولئك الذين ارتكنوا للمنافي إن لم يكن لهم أن يراجعوا أنفسهم؛ فإن ليلا طويلا لا يُنتظر منه أن يلف مصر بلدهم فقط؛ بل
الأمة كلها، وإن عناوين للآمال وتحققها ستوأد لآلاف الليالي والنهارات المقبلة، وهم
يتحملون وزر ذلك للأسف.
إننا حين نتخلى عن الدور المناط بنا في وقت حاجة بل تراجع للأمة لا نخيب
الآمال فينا فحسب، حينما نفضل عليها أنفسنا وحاجاتنا التي غالبا ما لا تكون ملحة،
وإنما نسقط أنفسنا في هاوية ما لها من قرار، ونسيء لذواتنا ونحكم عليها بأن تجمع
بين عداوة الحق وإنكار فضل كل الذين تمنوا ألا نفعل بها هذا، وما أكثر مضاري الأمة
في غزة قبل مصر وعموم الوطن العربي الإسلامي، ثم إننا ملاقو الله يوم القيامة فمُسائلنا
ويا له من سؤال! ويا لها من حياة طويلة يهدرها البعض -على الأقل- بالقليل الدنيوي!