قضايا وآراء

هل نحتاج إلى تطبيق الشريعة أم إلى تطبيق القانون؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
قديما قال الشهرستاني مذكّرا بمركزية الحكم في تأجيج الخلاف بين المسلمين إلى درجة تصعيد هذا الخلاف إلى مستوى القاعدة الدينية: "ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة". ولا شك في أنّ الصراع على السلطة وعلى الثروات الرمزية والمادية التي تخضع للحقل السياسي مازال هو مركز الصراع رغم أنه أصبح في العصر الحديث يصاغ بجمل سياسية مختلفة وانطلاقا من مرجعيات إيديولوجية متباينة بل متناقضة في الكثير من الأحيان. وهو ما لم يكن موجودا في المجتمع التقليدي الذي كان يعيش مرجعية مهيمنة في المستوى التشريعي هي المرجعية الدينية.
 
مبدئيا، وبعيدا عن المناكفات والمزايدات التقووية والمعرفية، لا يمكن لأحد أن يجادل في أن الشريعةُ كانت صالحة لإدارة المجتمعات التقليدية، وكما لا يمكن للباحث المنصف أن يجادل في أنّ العالم الحديث لم يدخل فقط منظومات تشريعية منافسة للشريعة، بل أوجد واقعا لا تقدر المنظومة التشريعية التقليدية على إدارته بصورة تضاهي فاعلية القانون الوضعي. ولا يعني هذا عدم صلاحية الشريعة الإسلامية للواقع الجديد، بل منتهى ما يعنيه هو عدم صلاحية فهمنا نحن للشريعة في إدارة هذا العالم. فلو فهمنا الشريعة باعتبارها كل تلك الترسانة الفقهية التي يتساوى فيها القرآن والأحاديث والقياس والإجماع وغيرها من القواعد الأصولية الجزئية فإننا سنجد أنفسنا أمام مأزق نظري وعلمي يصعب تجاوزه في واقع تعددت فيه مصادر إنتاج المعنى بما فيه المعنى الديني ذاته.
 
إنّ حصر الشريعة في الحدود -أي في جزء من القانون الجزائي- مثلما يفعل الكثير من جهلة الحداثويين هو أمر مردود ولا معوّل عليه في محاورة العقل الفقهي، كما أنّ الرفض المطلق والمرضي لكل إحالة على المنظومة الفقهية الإسلامية هو أمر لا يمكن فهمه من الناحية النظرية ومن الناحية الوظيفية أيضا. فمن المفروض أن يكون التشريع مسايرا للمجتمع وصالحا لإدارة شؤونه، فإذا توفرت في بعض نصوص الشريعة هذه المعايير دون أن تصادم الحقوق الأساسية للمواطنين، فلا موجب لاستبعادها مسبقا. ولكنّ جعل الفقهيات "شريعةً" لا فرق بينها و بين ما أنزله ربّ العالمين هو أمر لا يمكن أن يُسلّم به إلا متمذهب لا ينظر إلى أبعد من متون شيوخه و حواشيهم. ولن أفصّل القول في مورد اللبس المنحدر من التمازج المشكل بين الفقهيات والعقائد، ذاك التمازج المنحدر إلينا من مدرسة المحدّثين قديما، والذي أحيته الحنبلية الجديدة ثم من بعدها المدرسة الوهابية حديثا.
 
يقتضي التوسع في هذا الأمر توضيح مقدار "العطالة" التي يمارسها الفهم "الوهابي" على أية نزعة للتحرر من ربقة التاريخ ومن شرك إشكالاته ورهاناته وحلوله. ذلك أنّ المنظومة التقليدية التي عادت بقوة لمنافسة الإيديولوجيات الحديثة، كانت قادرة على ضبط المجتمع التقليدي في مختلف مناحي حياته الفردية والجماعية، وكان نواة مقالاتها الأصولية أو الفقهية ومركزها هو"المحدّث" الذي هيمن على الفقيه، وكان مجال فعلها وتعريفها الذاتي الأقصى هو "الجماعة الإيمانية" أو المذهب، وكانت تتحرك داخل ثقافة تحكمها الاستعارة الرعوية حيث كانت المواطنة من باب ما يستحيل التفكير فيه. أما في العصر الحديث فإننا نحيا في سياق سوسيو-ثقافي مباين للمجتمع التقليدي من جهة أنساقه الثقافية وأنظمته المخيالية وأنماط شرعيته للواقع التقليدي، سياق نواته الصلبة هي مفهوم المواطن ومجاله الواقعي هو الدولة "القُطرية"، وآلية تنظيمه هي "الديمقراطية" التي هي مصدر الشرعية ومصدر كل السلطات التي تعمل على إدارة اختلاف المنظومات العقدية والسلوكية المهيمنة على المجال العام أو الساعية إلى الاستئثار به واحتكاره..

حديثا، يمكننا أن نعتبر التبشير ب"تطبيق" الشريعة أو التخويف منها انزياحا مقصودا عن القضية الأصلية التي هي في رأيي المتواضع عدم تطبيق القانون الوضعي وليس تطبيقه. ولذلك فإنّ جاذبية تطبيق الشريعة تزداد كلما ساءت سمعة الدستور أو القانون أو فلسفتهما السياسية التي هي "العلمانية". ولكنّ الدوغمائيات المتصارعة يمينا ويسارا تهمّش هذه الواقعة السوسيولوجية للالتفاف على الإشكال الحقيقي الذي يمكننا صياغته في السؤال التالي: متى طبقت الدول القُطرية المبادئ الأساسية للدولة الحديثة، ومتى التزمت بالدساتير أو بترسانة القوانين التي وضعها مشروعها لتحقيق الشعارات الكبرى التي حكمت عملية ّالتحديث" من مثل العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها؟
 
لا شك في أنّ إدارة الصراع على أساس وجود مشاريع مجتمعية مختلفة يخدم المتنفذين داخل الدوغمائيات جميعا، بل يخدم في النهاية المتحكمين في الواقع المعيش والمنتمين إلى شبكات زبونية ومنحدرات جهوية ومرجعيات إيديولوجية محافظة وتابعة للمركز الغربي رغم كل ادعاءاتها التقدمية أو الوطنية. ففي تونس مثلا، يُصر المنتمون إلى ما يُسمّى بالعائلة الديمقراطية على استبعاد الإسلاميين –بما في ذلك حركة النهضة- من هذه العائلة وذلك على أساس تهديدها "للنمط المجتمعي التونسي" وتبشيرها بنمط مجتمعي مختلف بصورة جذرية. وهي حجة لم يستفد منها في النهاية إلا المنتمون إلى المنظومة الدستورية-التجمعية الحاكمة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. فقد استطاع هؤلاء شرعنة عودتهم عبر الالتحاق ب "العائلة الديمقراطية" لمحاربة "الخطر" الإسلامي في جميع صوره الموهومة والحقيقية. ولا يخفى على أي مراقب منصف أنّ كل "المشاريع" المجتمعية المتصارعة-في تونس وخارجها- هي في النهاية مشاريع تبعية وتأبيد للتخلف وذلك مهما كانت ادعاءاتها الدينية أو العلمانية.  
 
ليست المنزلة التي تُعطى للفقه عندما يكون لبنة في بناء "المواطن" لا المؤمن فقط هي ما يعيق مدنية الدولة أو ما يؤذن بذهابها، أمّا ادعاءات النخب الحداثية الملحقة بالسلطة السياسية فلن تتجاوز مستوى إدارة الفشل وتبريره ولن تنجح إلا في قمع أي إرادة للتحرر وفي تأجيل مشروع المواطنة. إنّ ما يُدمّر الدولة المدنية حقيقةً هو طبيعة المقاربة "النصية" الاستعلائية والرؤية الوجودية "التراثية" التي تحاول بعث أحادية الحق والفرقة الناجية والطائفة المنصورة من سراديب الكتب وسراب التاريخ، والتي تضيق بالمختلف ولا تتسع إلا للشبيه والمجانس عقيدة وسلوكا. كما أن ما يُدمر الدولة المدنية هم أولئك "المغتربون" الذين يعانون من الوثنية الفتيشيزم الثقافي الراسخ في الاغتراب وفي الدونية اللاواعية. وهو ما يُنتج ضربا من التوثين للمفاهيم الغربية ليُحوّل ما أنتجه العقل الغربي من تشريعات أو قيم "تاريخية" إلى إله يُعبد، أو إلى "سبت التاريخ" الذي لا عمل للجسم فيه ولا حقيقة للروح وراءه.
 
لقد مثّلت المرجعية الدينية للدولة-وتحديدا مسألة تطبيق الشريعة أو أجزاء منها- إشكالا كبيرا قبل الثورات العربية وبعدها. وقد ازدادت حدة هذا الإشكال بعد الربيع العربي ووصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس ومصر خاصة. إذ تفاقمت مخاوف القوى الحداثية-على اختلاف مرجعياتها الإيديولوجية- من أسلمة الفضاء العام وضرب الفلسفة الحديثة للانتظام السياسي داخل الدولة القُطرية. ولا شك في أنّ تلك المخاوف ليست على درجة واحدة من القيمة، ولكنها مخاوف مشروعة في أغلبها. فالإسلاميون قد عجزوا عن طمأنة أغلب "المختلفين" عنهم مذهبا أو ديانة أو أنساقا سلوكية. ويبدو أنّ الفهم الذي يروّج له الإسلام السياسي للشريعة ولدورها في بناء الإنسان/ المواطن والفضاء/الوطن كان من أهم أسباب ترسيخ تلك المخاوف والدفع بها نحو منطق صدامي أساسه الصراع "الوجودي". ولكنّ ذلك كله لا يجب أن يُخفي عنا الوجه الآخر للحقيقة ألا وهو أنّ تضخم مسألة الشريعة عند الإسلاميين ليس مردودا "فقط"إلى أسباب إيمانية، بل هو أساسا مرتبط بفشل الدولة الحديثة وبعجزها عن تشريك أو طمأنة نسبة كبيرة من مواطنيها الذين لا يجدون أنفسهم في خطابها الديني الرسمي باعتبارهم "مؤمنين"، كما لا يجدون أنفسهم-من جهة ثانية- في منجزها الاقتصادي والاجتماعي ولا في اختيارتها الثقافية باعتبارهم "مواطنين". 
0
التعليقات (0)