مقالات مختارة

زمن التفاخر بالأضحيات

زياد الدريس
1300x600
1300x600
كنّا نذهب مع أبي، يحفظه الله، إلى صلاة عيد الأضحى في ساحة الملعب غير البعيد من حارتنا في مدينة الرياض. وكان الخطيب يختم خطبته دوماً بإخبار المصلّين أن الرسول صلى الله عليه وسلّم، قد ضحّى يوم عيد الأضحى بكبشين، أحدهما عنه وعن أهل بيته والآخر عن أُمّته.

وبعد انقضاء الصلاة والخطبتين، ينطلق الناس من المصلى إلى بيوتهم كي يذبحوا أضحياتهم، قبل أن يلتقوا مجدداً في مجالس العيد الحميمة، ويتبادلوا الأحاديث والأخبار عن أضحياتهم والجروح التي ربما أصابت بعضهم أثناء الذبح أو السلخ، وحكايات الجزّارين الذين بات يُستعان بهم (ما بعد الطفرة) ومقالبهم أحياناً، إضافة إلى أخبار خفيفة عن الحميس والحسحاس ومَصير الجلود!

لكن السؤال الاستفتاحي المسيطر على مجالس عيد الأضحى، كان هو دوماً: بكم رأس ضحّيتم؟

ما زلت أتذكّر ثلاثة رجال، يرحمهم الله، يتسابقون للإجابة عن السؤال العيدي المعتاد. أحدهم كان يضحّي بثماني أضحيات والآخر باثنتي عشرة أضحية والثالث بخمس عشرة أضحية.

كنت أشعر، بعقلي الصغير، أن هؤلاء الكبار أكثر تديّناً من أبي (خريج الشريعة وحافظ القرآن) الذي لا يذبح سوى ثلاث أضحيات، واحدة لوالديه وأقاربه، والثانية لوالدَيْ والدتي، يحفظها الله، وأقاربها، والأضحية الثالثة لأبي عنه وزوجته وأولاده.

الفتوّة الصغيرة كانت تجعلني أنسى ما قاله خطيب العيد عن سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم في الاكتفاء بذبح أضحيتين فقط، وأن يتملّكني الإعجاب بكرم أولئك الرجال، على رغم محدودية دخل اثنين منهم بالذات. وكنت أودّ معرفة شعور أبي والآخرين مثله في المجلس، الذين لم يضحّوا إلا بثلاث أو أربع أو خمس أضحيات. لم يكن حينذاك أحد يجرؤ على أن يضحي بواحدة أو اثنتين فقط، أو أنه كان يوجد لكنه لم يكن يجرؤ ليخبرنا عن ذلك!

أسترجع هذه الذكريات الآن، ليس فقط من باب الحنين إلى زمن مضى، ولكن للمقارنة، إذ لم أعد أشعر بأن سؤال: (بكم رأس ضحيتم؟) ما زال حاضراً في مجالس العيد الآن مثلما كان. وكأنّ عدد الأضحيات لم يعد يصنع فارقاً بين الرجال (!)، كما لم يعد الرقم مؤشراً إلى متانة التديّن أو حتى الكرم.

ما الذي تغيّر؟!

هل اقتنع الناس أخيراً بإرشادات خطباء العيد عن السنّة النبوية في الأضحية؟

سيقول قائل إن الوضع المالي هو سبب انحسار ظاهرة التفاخر بعدد الأضحيات. وسأقول له إن هذا التفسير غير صحيح لسببين: أن التفاخر كان موجوداً حتى قبل الطفرة المالية، وأن انحسارها أو تقلّصها قد بدأ قبل الانكماش المالي الراهن.

قد يقول آخر أن السبب هو زهد الجيل الجديد في سباقات التفاخر، وأنه أصبح الآن أكثر واقعية وجدّية! وهذا السبب طبعاً سيكون مثار تندّر وسخرية لو قيل حقاً، فالناس كلهم يدركون تفشّي ظاهرة التفاخر (ما يسمى الهياط) عند الجيل الحالي في شكل يبعث على الأسى والاشمئزاز أحياناً.

إذاً، ما السبب؟!

لا أدري، سأبحث أكثر. لكن الذي أدريه أن ظاهرةً سلبيةً توشك أن تتلاشى من مجتمعنا، ما يعني أننا لسنا محكومين بعدم تصحيح أخطائنا، سواء بدافعٍ منّا أو بدافع الزمن.

وكل عام وأنتم بخير

(عن صحيفة الحياة اللندنية)
التعليقات (0)