من أراد التطبيع مع إسرائيل ونيل رضاها واللحاق بقطار شمعون بيرس للشرق الأوسط الجديد، فهو حر وليُطبّع كما يشاء، شرط إبقاء اسم فلسطين وقضيتها وشعبها بعيدا، فما تحملته على مدى قرن من الزمن لا يتحمله شعب آخر.. وما عادت تقبل أن ترتكب الفواحش والخطايا باسمها.
فكل ما شهدته المنطقة العربية منذ النكبة عام 1948 وحتى الآن يتم باسم فلسطين وشعبها وقضيتها، وكما استغلوا اسم فلسطين في الانقلابات العسكرية في خمسينيات وستينيات وحتى سبعينيات القرن العشرين، يقحمونه مجددا في القرن الواحد والعشرين ويستخدمونه غطاء، وهم يلهثون وراء التطبيع مع دولة الاحتلال، ولا يتعلمون الدروس.
والحديث هنا عن «زيارة العار» التي قام بها الجنرال السعودي المتقاعد أنور عشقي لإسرائيل بتذكرة القضية الفلسطينية. وتأتي «زيارة العار» هذه لتعطي المصداقية لما يصرح به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتفاخره بما وصفه بالانقلاب الذي حققه في علاقات إسرائيل مع الدول العربية؛ فقد أصبحت إسرائيل تحظى بعلاقات رسمية وغير رسمية من المحيط إلى الخليج وبالعكس.
يقول الجنرال المتقاعد رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية في جدة، إن زيارته لم تكن لإسرائيل، بل لفلسطين وتلبية لدعوة فلسطينية، والأهم أن الغرض من هذه الزيارة حسب ادعائه هو الوقوف على أوضاع المعتقلين الفلسطينيين وأسر الشهداء، وأنه والوفد المرافق له اجتمعوا مع أسر شهداء «وواسيناهم وحضرنا حفل زفاف نجل مروان البرغوثي أحد المعتقلين ورمز القضية الفلسطينية».
كلام غث فيه استخفاف بعقول البشر، فقضية أسرى فلسطين وشهدائها قديمة قدم القضية نفسها، فما الذي ذكّر الجنرال بهم الآن؟ ولماذا لم يتذكرها عندما كان بإمكانه أن يصدر الأوامر لجنوده للتوجه نحو فلسطين لتحريرها وأسراها وقدسها؟ ولو جاء الجنرال عشقي للأسرى محررا لرفع له الفلسطينيون القبعات احتراما، ولكن أن تستخدم هذه الورقة بهذه الطريقة فهو أمر مرفوض.
يتهم عشقي وهو صاحب الباع الطويل في مصافحة الإسرائيليين، والصور أصدق إنباء من الكلام. الصحف الإسرائيلية بتحوير الزيارة وهي بالمناسبة ليست الزيارة الأولى باعترافه، واعتبارها زيارة لإسرائيل لأنها تعتبر القدس إسرائيلية، وهو يعتبرها فلسطينية وقضية إسلامية وعربية، وهذا كلام حق يراد به باطل.
حتى هذا التبرير كان يمكن استيعابه والقبول به لو اقتصرت زيارة الجنرال عشقي على مدن الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة، ولقاء الفلسطينيين فقط، لكن الجنرال، قابل دروري غولد ممثل نتنياهو، في فندق الملك داوود في القدس الغربية، فهل لا يعترف الجنرال عشقي بتقسيم القدس ويعتبرها بشقيها الشرقي المحتل منذ عام 1967 والغربي المحتل عام 1948 جزءا من دولة فلسطين؟ ولو كان الأمر كذلك لشددنا على يد الجنرال، و«فرشنا له الأرض رملا» كما يقول المصريون أو سجادا أحمر باللغة الدبلوماسية.
فكيف إذن يزعم أن الزيارة لفلسطين فقط، وأنه لم يلتق رسميا مع مسؤولين إسرائيليين؟ أليس، غولد مدير عام وزارة الخارحية الإسرائيلية شخصية رسمية ويحتل موقعا رسميا؟ أليس غولد هو صاحب المهمات الصعبة التي يكلفه بها سيده الذي احتفظ بهذه الحقيبة لنفسه منذ فوزه في الانتخابات الأخيرة في مارس 2015. وهل يريد الجنرال أن يقنعنا بأن لقاء سريا لم يتم بينه وبين نتنياهو؟ وهل يمكن أن يفوت نتنياهو مثل هذه الفرصة الذهبية التي سيؤكد من خلالها مصداقية ما يردده منذ زمن حول الاختراقات التي حققها على صعيد الدول العربية؟ هل يريد الجنرال أن يقول إن لقاء غولد كان مجرد لقاء صديق مع صديق؟ والمعلومات تؤكد ان لقاءات عديدة عقدت بين الرجلين في السنوات الأخيرة في واشنطن وعواصم أوروبية، ربما ساعدت في توطيد العلاقة بينهما؟ وإذا كان الجنرال ووفده لا يحملان أي صفة رسمية فكيف يبرر لقاءه مع منسق نشاطات جيش الاحتلال في الضفة الغربية
الميجر جنرال يؤاف مردخاي وما الغرض من هذا اللقاء؟
وإذا كانت زيارته بريئة فكيف يفسر لقاءه مع يائير لبيد رئيس حزب «يوجد مستقبل» الصهيوني؟ وما هو الغرض من لقاء عدد من أعضاء الكنيست الصهيوني والحديث عن إمكانية أن يقوم وفد برلماني بزيارة السعودية؟ هل هو إقناع نتنياهو وحكومته وهي الأكثر يمينية وعنصرية في تاريخ إسرائيل بمبادرة السلام العربية، وهي الرافضة أصلا لفكرة السلام والرافضة للمبادرة العربية بشكلها الحالي جملة وتفصيلا.
ولو كان الهدف كما نقلت عنه الصحف الإسرائيلية، هو إقناع الإسرائيليين بالمبادرة العربية، وهي في الأصل مبادرة للملك عبد الله بن عبد العزيز أعدها عندما كان وليا للعهد، إلى أن تبنتها قمة بيروت العربية عام 2002.
كيف يضمن الجنرال/ الدبلوماسي، أنه سينجح بما فشلت في تحقيقه منظمة التحرير الفلسطينية ومن ورائها الدول العربية بمبادرتها، والأمريكيون والأوروبيون؟
ولماذا جاء تحركه متأخرا أكثر من 14 عاما على المبادرة؟ لماذا في هذا التوقيت بالذات؟ أليس بسبب التغييرات والتحالفات الجديدة التي تشهدها المنطقة العربية في ظل «الربيع العربي».
ألا تأتي هذه الزيارة المشؤومة في إطار الحل الإقليمي الذي دعا إليه نتنياهو، وتلقفه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لضرب المبادرة الفرنسية في مقتل، وليخرج نتنياهو وحكومته من مأزقها. أليس الجنرال عشقي هو من أشاد بنتنياهو وإمكانيّة التّحالف معه لمواجهة إيران؟
إنها زيارة تطبيعية اختبارية بامتياز.. وفلسطين ليست إلا الغطاء الذي وفره ويوفره بعض المسؤولين الفلسطينيين الذين أدوا دور الوسيط. والتوضيح الصادر عن وزارة الخارحية السعودية لم يتنصل من «خطيئة»، الجنرال وحتى لو افترضنا أن الزيارة مبادرة شخصية، فمنذ متى كانت السعودية واحة الديمقراطية وحرية التعبير وتعدد الآراء السياسية والأفكار؟ ومنذ متى يسمح للمواطن السعودي بالخروج عن الخطوط السياسة الرسمية العامة؟
لم يأت بيان وزارة الخارجية السعودية بمحتواه، إلا ليؤكد أن الزيارة لم تكن شخصية بل شبه رسمية، فقط خلا البيان من أي إدانة لها أو حديث عن محاسبة القائمين عليها لمخالفتهم السياسة العامة، وإذا كان هناك غرض فهو لإسكات المعارضين لهذه الزيارة. ويقول البيان: «ردا على بعض ما تتداوله وسائل الإعلام، فإن جمال خاشقي وهو إعلامي سعودي هاجم الزيارة، ونواف عبيد، دبلوماسي، وأنور عشقي، ليس لهم علاقة بأي جهة رسمية، ولا يعكسون وجهة نظر حكومة المملكة، وأن آراءهم تعبر عن وجهات نظرهم الشخصية».
وإذا كانت مثل هذه الزيارات غير تطبيعية، كما يزعم عشقي وغيره، فلماذا تفاخرتم شرفا ووطنية ورفضتم أن يلعب المنتخب الوطني السعودي على أرض فلسطينية في تصفيات كأس آسيا؟ ألم يكن رفض التطبيع مع إسرائيل مبرركم؟
وأذكّر فقط بما قاله المعلق الرياضي السعودي وليد الفراج في قناة «إم بي سي آكشن» الرياضية السعودية في ديسمبر الماضي، الذي أقحم نفسه في السياسة فهاجم الفلسطينيين، وخصوصا رئيس اتحاد الكرة الفلسطيني الرجوب، الذي تصدر الدفاع عن زيارة عشقي المشؤومة وتبريرها، وقال إنها جاءت تلبية لدعوة فلسطينية وإن لقاءاته مع الإسرائيليين هي لتأكيد الموقف من التطبيع. فقد وصف الفراج الرجوب في حينها بـ«رجل المخابرات الّذي يريد جرّ السعوديّة للتّطبيع مع إسرائيل». وأعد فيديو كليب حول لقاءاته مع الإسرائيليين وتصريحاته السياسية أو الرياضية مدموجة بمسرحيات وأفلام مصرية ساخرة.
وهذا يترك لنا تفسيرا واحدا لهذه الزيارة غير المرحب بها، وهو التطبيع التدريجي التخديري على جرعات؛ بمعنى تعويد الناس تدريجيا على الصور الصادمة لهذا المسؤول أو ذاك، وهو يصافح مسؤولين إسرائيليين في الخارج قبل أن تنقل المصافحات واللقاءات إلى إسرائيل. هذا ما فعله عشقي وما يفعله أيضا تركي الفيصل رئيس المخابرات السعودية الأسبق، فبعد تعويد الناس على رؤية عشقي وهو يصافح غولد ومائير ويوآف مردخاي وغيرهم من المسؤولين الإسرائيليين، ومرور اللقاءات والمصافحات بسلام ومن دون ضجة كبيرة، انتقل إلى الخطوة التالية وهي لقاء المسؤولين في إسرائيل لتلحق بها لقاءات رسمية، وربما تكون ردود الفعل أقل وطأة.
وأختم إن هذه الزيارات واللقاءات والمصافحات ونشر الصور التي تجمع بين مسؤولين عرب سابقين وحاضرين، ليست إلا محاولة لكسر التابو وتخطي المحرمات، وتعويد عيون المشاهدين عليها لتصبح أمرا مألوفا ومقبولا لما هو مقبل وهو أعظم.. استبدال هذه الشخصيات التي تزعم بأن ما تقوم به ليس إلا مبادرات شخصية وفردية لا علاقة لها بأنظمة بلدها، بشخصيات رسمية، بالضبط كما حصل مع الفضائيات العربية التي كانت تعتبر استضافة المسؤولين الإسرائيليين من المحرمات فيها، ورويدا رويدا أصبحت استضافتهم أمرا عاديا ومقبولا.
القدس العربي
1
شارك
التعليقات (1)
mousa atawneh
السبت، 30-07-201604:08 م
فقط عشقي الذي يزور . لا أشك قط في أن الزيارات متواصلة والوفود قادمة ومغادرة من تل أبيب الى الرياض وبالعكس . ما خفي كان أعظم . وليس حكومة خادم الحرمين الشريفين هي لوحدها المطبع ولكن أغلب دول البترول ما عدا الكويت . خليها على الله . دنيا آخر زمن .