أثارت زيارة وفد من الكتاب الفلسطينين إلى دمشق، تعبيرا عن تضامنهم مع رئيس نظامها في حربه ضد الأكثرية السورية، موجة من الغضب لدى الكثير من الكتاب والمثقفين، وبالأخص الفلسطينيين منهم، الذين اعتبروا أن الخطوة تمثل إهانة للثقافة الفلسطينية المقاومة لكل أشكال القهر ومحاولات إلغاء الشعوب، ذلك أنه باستخدام معايير ومؤشرات الفعل الإجرامي ليس ثمّة فارقا لا في الأداء ولا في النتيجة بين سلوك إسرائيل العنصري التطهيري وسلوك نظام الأسد، بما يحتم اتخاذ موقف نضالي وأخلاقي واحد.
لكن رغم ذلك، ورغم وضوح الحق من الباطل إلا أن ثمّة تيارات وشرائح وشخصيات على امتداد العالم العربي تقف بقوة إلى جانب نظام الأسد، والأكثر من ذلك أنها تتبنى روايته للحدث وتعمل على صناعة مظلومية له، فهو في نظرهم الضحية وضحاياه هم الجناة، وهو في خطابهم صاحب الحق الساطع والطرف الآخر مجرد خائن لا يستحق موته سوى التهليل والفرح.
تستحق هذه الظاهرة إلقاء الضوء عليها لمعرفة الأسباب والدوافع التي تقف خلفها وتحفّز أنصارها على الإعلان عنها دون أدنى إحساس بالخجل أو بالمسؤولية الأخلاقية تجاه ضحايا النظام الذي يؤيدونه، بل يصل الأمر إلى حد الفخر لدى هؤلاء في تأييدهم للجريمة المنظمة التي يرتكبها نظام الأسد وحلفاؤه بحق السوريين، والواقع، ومن خلال قراءة خطاب هؤلاء يتبين أنهم يرتكزون على جملة من الذرائع لإسناد موقفهم وتبريره أمام أنفسهم وللآخرين:
- ذريعة معاداة الأنظمة (الرجعية) العربية، وهو مصطلح قديم ساد في ستينيات القرن الماضي للتفريق بين أنظمة (تقدمية) جمهورية، وأنظمة ملكية، ومع أن نظام الأسد هو نظام ملكي بحكم توارث السلطة وديمومة سلطة العائلة الحاكمة التي يفوق عمرها في السلطة عمر تأسس بعض الممالك والإمارات في العالم العربي، من جهة أخرى فإن التطبيق الإجرائي لمعيار التقدمية هو الموقف من الديمقراطية والتطور الاجتماعي، ولا يمكن إدراج نظام الأسد ذي الطبيعة المخابراتية والذي كبّل تطور المجتمع السوري وجعله في ذيل قائمة الدول المتخلّفة ضمن هذه الخانة.
- ذريعة معاداة الغرب وإسرائيل، رغم أن نظام الأسد، كان، ولفترة مديدة يعمل متعهدا لدى الغرب لكل الأعمال القذرة التي تأنف المخابرات الغربية عن القيام بها في المنطقة، من اجتثاث جذور المقاومة الفلسطينية في لبنان والمشرق عموما إلى تزويد إيران أثناء حربها مع العراق بالأسلحة، فيما إسرائيل وأمريكا كانتا تخجلان من الكشف عن علاقاتهما بملف تسليح إيران قبل أن يصار إلى فضح هذه العلاقة في ما سمي" إيران غيت"، وانتهى نظام الأسد في السنوات التي تلت الغزو الأمريكي للعراق بالعمل كمخبر على الشباب العربي القادم لنصرة العراق.
- ذريعة الوقوف إلى جانب المقاومة، بحجة أن نظام الأسد مقاوم من أجل فلسطين، دون الالتفات إلى حقيقة أن نظام الأسد قام، ومنذ انقلاب حافظ الأسد على السلطة، بتفكيك علاقة سوريا بفلسطين عبر ضرب مقاومتها وشرذمته لمكونات المقاومة وتوظيفه جزءاً منها في خدمة سياساته في المنطقة، حتى انمحت عنها هويتها الفلسطينية.
- ذريعة معاداة الإخوان والسلفية، حيث يربط الكثير من اليساريين وقوفهم إلى جانب نظام الأسد بمعاداتهم للإخوان المسلمين، مع أن الثورة السورية حين انطلقت لم يكن لجماعة الإخوان في سوريا وجود واضح بسبب اجتثاث وجودها من المجال العام في سوريا قبل ذلك بسنوات طويلة، أما أن يطلق السوريون في استغاثاتهم شعارات "يا الله ما لنا غيرك"، فذلك ليس مؤشرا على ارتباط الثورة السورية بالإخوان بقدر ما يعني حقيقة أن الأكثرية السورية هي من المسلمين.
وفي الواقع، لا تعدو هذه الذرائع سوى واجهات يخفي من خلالها المؤيدون للأسد دوافعهم الحقيقية والتي ليس لها علاقة من قريب أو من بعيد بقيم التقدمية والمقاومة والتحرر، بقدر ما ينطلق تأييدهم للأسد من اعتبارات وحسابات غريبة وضيقة بالوقت نفسه وناتجة عن خليط من العقد يخجل أصحابها عن البوح بها فيذهبون إلى التعويض عبر رفع الصوت عالياً وفي ظنهم أنهم يخفون نقائصهم ويوارونها في عملية تدليس واضحة، أما أسبابهم الحقيقية فهي:
- الغيرة من الاعتراف بثورية الشعب السوري وشعوب الربيع العربي عموما، ذلك أن القوى اليسارية ودعاة القومية، غالباً ما طرحوا أنفسهم على أنهم القوة الطليعية للتحرر في المنطقة وأنهم العناوين الأساسية للنضال، وإذ لا يمكن نكران تضحياتهم وتعرضهم للاضطهاد السلطوي عبر عقود مديدة، إلا أن نضالهم ظل نخبويا أو على الأقل لم يتمكنوا من استقطاب الشارع العربي خلفهم، لظروف ربما تتعلق بالشارع نفسه، ويظن قطاع واسع من هؤلاء أن ثورات الشعوب سرقت منهم الأضواء وربما همشّت تاريخهم، لذا فإن غالبية هؤلاء يشعرون بعداء شخصي تجاه هذه الثورات وليس موقفا أيديولوجيا كما يدعي الكثير منهم.
- رفض الاعتراف بمأساة السوريين، ذلك أن المظلومية يجب أن تبقى ضمن جهات محددة فلا شيء يشبه كربلاء أو مجزرة دير ياسين أو حلبجة ولا حتى ما يحصل في اليمن، ولا تشبه مقاومة الشعب السوري المقاومات الأخرى، وسجون بشار الأسد غير السجون الأخرى، وكأنهم يدفعون ثمن تضحيات الشعب السوري من رصيد مظلومياتهم.
لكن يبقى ثمة سبب أهم من تلك الأسباب يتعلق بطبيعة قراءة هؤلاء للثورات وطبيعة موقفهم من الشعوب، من الطبيعي أن تنتج هذه المواقف عن سطحية مدهشة وعنصرية لم يسبق أن تم اختبارهما سابقا، فلما المفاجأة؟