قضايا وآراء

حينما تحدى حجاب السوريات دهاء حافظ الأسد

غازي دحمان
الأناضول
الأناضول
ثمّة سذاجة تتحدى العقل والمنطق السليم في تصرفات بعض الإسلاميين في سوريا، من خلال دعواتهم تحجيب النساء أو تخميرهن، السذاجة هنا لا تقتصر على حقيقة أنّ البلاد التي تركها نظام الأسد شبه مدمّرة ومفلسة، لديها قائمة أولويات، ملحّة وضرورية، أكثر من الحجاب الذي ينتشر أصلا بكثرة في سوريا، بل لأن البلاد لا زالت في حالة استقطاب طائفي لا يسمح بهذا النمط من الممارسات الدعوية، التي يمكن تفسيرها على أنها نوع من فرض نمط تدين معين يفرضه الغالب، أو من يظن نفسه كذلك.

في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، كان السفور منتشر بكثرة في سوريا ولا سيما في المدن الكبرى وضواحيها، وحتى في الأرياف لم يكن غطاء الرأس على نمط الحجاب الحالي، بل كان يغطي نصف شعر المرأة، وباستثناء بعض المناطق، لم يكن النقاب منتشرا في سوريا.

ستشهد نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي انتشارا كثيفا ومتسارعا للحجاب في سوريا، سيشمل المدن والريف، ضمن سياق تحوّل كامل في عادات الناس، حيث ستنتهي معها دبكات الريف المختلطة التي كانت سائدة في حوران والجزيرة على سبيل المثال، وسيتراجع الاختلاط بين الإناث والذكور بشكل ملحوظ، حتى النمط العمراني سيعاد تشكيله حيث بدأ ينتشر نمط المنازل المغلقة،
هذا التحوّل حصل في زمن نظام كان يحارب مظاهر المحافظة الإسلامية في سوريا بجميع مظاهرها من اللحية الى الحجاب وسواها، ووصل به الأمر الى حد تنظيم حملة لنزع الحجاب في الشوارع العامة في دمشق، ويبدو أن العملية كانت اختبارا لردة فعل الشارع السوري المحافظ
ويتراجع دور البلكون ووظيفته من مكان لسهرة العائلة مفتوح على الحارة وأخبارها وتفاعلاتها، إلى مجرد مستودع للأغراض الزائدة في المنزل، وسيختفي في الأبنية التي ستظهر بعد ذلك.

المفارقة، أن هذا التحوّل حصل في زمن نظام كان يحارب مظاهر المحافظة الإسلامية في سوريا بجميع مظاهرها من اللحية الى الحجاب وسواها، ووصل به الأمر الى حد تنظيم حملة لنزع الحجاب في الشوارع العامة في دمشق، ويبدو أن العملية كانت اختبارا لردة فعل الشارع السوري المحافظ، لكن حافظ الأسد، الذي كان نظامه يمر بأزمة اقتصادية خانقة وعزلة إقليمية ودولية، أدرك، وبعد معاينة ردود الشارع، أنه قد يفتح على نفسه بابا خطيرا لا داعي له، فخرج في مساء ذلك اليوم معتذرا للشعب السوري، فيما أشاعت أجهزته الأمنية أن رفعت الأسد هو من يقف وراء هذا التصرف الذي لم يرضي شقيقه حافظ.

وهكذا، فإن ظاهرة انتشار الحجاب جاء في سياق تحوّل أملته ظروف موضوعية، كان قد تنبه لها الباحث المصري سعد الدين إبراهيم في كتابه "النظام العربي الجديد" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وقد درس مجموعة التحولات التي شهدها المجتمع العربي في تلك الآونة، وربطها في الغالب بالمتغير النفطي وأثره على الاقتصاد في الدول العربية المتوسطية، مصر وسوريا وفلسطين والمغرب والأردن، والتي ستسمى بعد ذلك بدول الاقتصاد الريعي، وتحصل على عوائد النفط الخليجي من خلال المساعدات وتحويلات العمالة والسياحة وسواها من المدخلات الاقتصادية.

ادعى إبراهيم حينها، أن الحجاب انتشر بوصفه نوعا من الحماية الذاتية للفتاة وعنوانا لا يجرؤ أصحاب الجيوب المليئة بأموال النفط من الاقتراب منه، ومن ثم فإن البنت أو المرأة المحجبة ستحمي نفسها من التحرش أو طمع أولئك الذين جاؤوا من بلادهم ويعتقدون أنهم يمتلكون المفتاح السحري للوصول إلى كل ما يريدون الوصول له، وشجّعهم على ذلك فساد الأجهزة في البلدان العربية المستقبلة ولهاثهم وراء المال الخليجي وإبداء الاستعداد لفعل أي شيء وكل شيء حتى يحصلوا على جزء مما في جيوب هذا الزائر، وبعضهم اعتقد أن فرصة واحدة قد تخرجه من الفقر إلى الأبد.

لكن نظرية سعد الدين إبراهيم قد تكون صحيحة بنسبة معينة، لكنها لا تصلح وحدها لتفسير ظاهرة انتشار الحجاب في البلاد العربية؛ فالمعلوم أن السياح القادمين من الخليج كانوا يفضلون العواصم أو المدن الكبرى، نظرا لوجود خدمات سياحية بها مثل الفنادق والمطاعم والحانات، وسكان هذه المدن في أحسن الأحوال لا يتجاوز 20 في المائة من سكان البلاد في ذلك الوقت، فلماذا وكيف إذا انتشر الحجاب في بقية البلاد؟ يجيب الباحث على ذلك بالقول إن العمال العائدين من الخليج نشروا نمط التدين الخليجي
انتشار الحجاب في سوريا كان نتيجة تفاعل العديد من العوامل التي شكّلت شرطا لهذا التحوّل، ولم ينتشر الحجاب لا بالدعوة ولا بالقسر والإجبار، فضلا عن أن الظرف السياسي الراهن غير مناسب لمثل هذه الدعوة
بما فيه نمط لباس المرأة والحجاب، وهذا تفسير غير دقيق نظرا لنسبة الذين ذهبوا للعمل في الخليج في ذلك الوقت وبالنظر كذلك لمكانتهم الاجتماعية ومحدودية تأثيرهم.

كان انتشار الحجاب انعكاسا لتحول أشمل عاشته المجتمعات العربية، شمل تمدين الريف وترييف المدن، ومكننة أدوات الإنتاج ومنها القطاع الزراعي ومعه سيصبح الاختلاط نادرا في الريف، بل سيصبح الفصل رمزا للمكانة الاجتماعية المتقدمة، ووصول الكهرباء الى غالبية الحواضر والأرياف العربية، وانتشار التلفزيون والهاتف حيث ستحقق هذه الأدوات بديلا عن الاختلاط بالناس، وموت أو تراجع أحزاب اليسار بدرجة كبيرة، وعسكرة المجتمعات العربية وتغوّل الاستبداد وبلوغه درجات لم يسبق أن وصل لها سابقا، ونتج عن ذلك تقوقع المجتمعات العربية وانغلاقها على نفسها، والعودة لقيم العائلة والعشيرة، حيث تصبح قضايا الشرف والعار مسائل مركزية في تقييم المكانة الاجتماعية، ما دفع الكثيرات من النساء إلى التمسك بالحجاب كبادرة للحفاظ على مكانة عائلاتهن الاجتماعية.

والحال، فإن انتشار الحجاب في سوريا كان نتيجة تفاعل العديد من العوامل التي شكّلت شرطا لهذا التحوّل، ولم ينتشر الحجاب لا بالدعوة ولا بالقسر والإجبار، فضلا عن أن الظرف السياسي الراهن غير مناسب لمثل هذه الدعوة، وبالتالي فإن الجدوى من ورائها معدومة للقائمين بها، كما أن عوائدها السلبية خطيرة، حين يعتبرها أنصار نظام الأسد معيارا لديمقراطية الأنظمة واستبدادها.

x.com/ghazidahman1
التعليقات (0)

خبر عاجل