أعجبتني كلمات فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، حفظه الله، في مهرجان "شكراً تركيا"، هزني الرجل، وقد تجاوز التسعين، وهو يتحدث ويبكي عن تجربة "السلطان" رجب "الطيب" أردوغان، برأيه، إذ إنه مدّ يد العون، بقدر استطاعته، للمستضعفين من العرب والمسلمين، المطلوبين المُدانين لا لجرم ارتكبوه بل فقط لأنهم نادوا برفع مصباح الحرية والرغبة في النهضة والتطور في بلدانهم!
"1"
والشيخ المحكوم عليه بالإعدام في بلده مصر بعد أن أخروجه منها خائفاً يترقب في الستينيات بعد انقلاب الراحل الرئيس "جمال عبد الناصر" على الملك فاروق، ثم على أول رئيس "محمد نجيب"، وبعد مذابحه التي لم ترحم امرأة أو شيخاً أو صغيراً أو جائعاً إلا أتت عليه، ومن آسف كان اختياره وتعزيز وجوده وبقائه بفعل "جماعة الإخوان"، والشيخ الممنوع من دخول دول كالإمارات وفرنسا، والشيخ يدعو لإعلاء قيمة الإنسانية بعد غرق العالم كله في طوفان من الدم اليوم.
والشيخ يردد هذه الكلمات تاهت النفس في مضمونها الراقي، وحلم السلام لو عمّ أرجاء المعمورة، ولو تراجع القوي من الإنسان والدول عن تناول حق الضعيف، بل تحديه والتعامل معه باستهانة، وبالتالي استدراجه إلى العنف في التعامل، وبين عنف البريء المُضطر للدفاع عن نفسه، ومع اندساس اللئام واستغلالهم الأمور يضيع العالم كله اليوم!
فلا العنف المُبالغ فيه من قبل رعاة الانقلابات وتحطيم الإنسانية من أفراد ودول أفادهم، ولا أفاد العالم الذي يتمرغ في أوزار الدماء إلى أن يعاوده التعقل يوماً ما!
"2"
قامتْ "الولايات المتحدة الأمريكية" على أرض كان يسكنها أهلها، وهم قوم بدائيون رحبوا بالمكتشفين الأمريكيين ومن ثم المحتل في "العالم الجديد"، وأمدوهم في البداية بمستلزمات الحياة التي يملكونها من غذاء وغيره، فما كان منهم إلا أن جلبوا الأمريكان وأمثالهم من المحتلين الأوربيين ليُفنوا قرابة مئتي مليون إنسان في فترة قياسية ليسكنوا أرضهم، ويُروى أنهم كانوا يتفننون في قتلهم، بل شيّهم وهم أحياء، وأمام أهاليهم حتى كانوا يشوون الرضيع بحضور أمه، وكان الواحد منهم ينطلق ليحصد أرواح خمسين وستين منهم بالسلاح ثم يفصل جلد رأسه عن وجهه ليتباهى بعدد القتلى أمام زملائه، ثم في مرحلة أخرى كانوا يحتجزونهم في معسكرات منفصلة، ويعطونهم بطانيات ليتغطوا بها في الشتاء، وهي خاصة بالجرحى والمرضى بأمراض معدية، حتى اجتاحت الأمراض الآلاف من "المسمين" بـ"الهنود الحُمر" فقتلتهم!
لم يفكر المحتل الأمريكي والأوروبي "المتحضر" في استغلال طاقات هؤلاء، والإبقاء عليهم كنوع من كسب أيديهم العاملة وقواهم والإبقاء على الإنسانية داخل المجتمعات الجديدة، وقد قامت على أنقاض هؤلاء، وإنما كان الإفناء المعنوي، على الأقل، هو غاية مجتمعات تحكم العالم اليوم، وتقول إنها تدعوه إلى التحضر، والأخير منها بريء!
"3"
كاتب إماراتي كتب بجريدة "الخليج" في 2008م مقالاً من أعذب ما قرأتُ، اسم المقال "ماذا فعلنا لكم؟" وكاتبه "جمعة اللامي"، يُقال إنه اعتزل الكتابة، وتفرغ لمشروع ثقافي خاص به، وكان يقول في المقال للغرب:
"لما ملكنا هذا العالم، وكانت الحضارة ببلداننا أفضنا عليكم، ووهبناكم المزيد وما هو أكثر من مقومات وأسباب حضارتنا، ولم نحجب عنكم سرّاً لصناعة، أو إنجازا لفكرة، وكنا حاملين لمشاعل النور إلى مجتمعاتكم المُغرقة في الظلام والتخلف".
ويتساءل الكاتب بمرارة لا أنساها: "فماذا فعلنا لكم لتحاربونا على مدار تاريخكم وترسلوا لنا الحملات المُسماة بالصليبية؟ والمسيحية بعامة منها بريئة، ولكي تخوض خيلكم في دمائنا في بغداد، ولكي تسدوا مجرى النهر بالكتب أو بمعنى أصح المخطوطات!".
وقد استمرت موجات حملاتكم الصليبية فترة زمنية غير قليلة مات خلالها آلاف من المسلمين العرب بلا ذنب أو جريرة سوى أنكم أردتم محاربتنا، ومن بعدها قعدتم لنا كل مقعد، أصررتم على احتلال أرضنا، والعبث بمقدراتنا بما يتنافى مع أي دين أو حتى منطق!".
وجرياً على كلمات الرجل.. تنطق النفس كل حين ما دامت تتردد فيها حياة، بالأسئلة:
ماذا فعلنا لكم ليتم تقسيم وطننا الواحد إلى دويلات منفصلة؟ ضعيفة منبوذة من الدول التي تجاورها المفترض أنها "شقيقة"، وتزرعون المشكلات الحدودية بين كل دولتين، حتى لا تجد دولة واحدة في الوطن العربي الواحد الذي صار عالماً منفصلاً ومفككاً عن بعضه البعض، حتى صار العدو الصهيوني أقرب إلى بعضه من إخوته؟
وماذا فعلنا لكم كي تغرقونا بالحكام الفسدة الظلمة الذين ربيتموهم على أعينكم وأيديكم ليطيحوا بأمن مجتمعاتنا؟ ويجعلوا العسكر من النوعين الداخلي والخارجي، الداخلية والجيش فوق رقاب الناس في بلادنا؟ وماذا فعلنا لكم لكي تصير مقدراتنا بأيدي السفلة الرعاع إلا من رحم ربي؟ وبتدبير خفي ومعلن منكم، ماذا فعلنا لكم لتتم زراعة كيان غاصب مجرم بقلب بلدنا؟ ووفق عقيدة "تلمودية" فاسدة، فيما تدعون العلمانية تارة وتتبرؤن من الأديان، وتدعون أنكم ملتزمون بالمسيحية ضد ما تسمونه التطرف الإسلامي، والتصريح لـ"ديفيد كاميرون"، رئيس الوزراء البريطاني في 29 من آذار/ مارس الماضي.. ملتزمون بتعاليم المسيحية ضدنا، وعلمانيون ضدنا في الوقت نفسه أيضاً، وفي الحالين لا تتركون مناسبة للانتقام غير الواضح السبب منا ومن شعوبنا إلا وتسلكونه بغير سبب واضح أو معلن، هذا بعد احتلال بلادنا لعشرات السنوات، وإزهاق أرواح ملايين الأبرياء منا لنحررها؟
وماذا فعلنا لكم ليظل الإنسان منا تائهاً حائراً طوال حياته لأنكم أردتم احتكار الحضارة والطريق إليها لأنفسكم؟
وماذا فعلنا لكم لتربوا المواطن الغربي على أننا لسنا آدميين فيما أنتم كذلك؟ ولكي يقول قادتنا هذا آناء الليل وأطراف النهار؟ ولنراجع تصريح المدعو السيسي عن كون المنطقة العربية كلها متخلفة ترزح تحت نير الجهل ولا ينبغي مقارنتها بالغرب.. هذا في حضور الرئيس الفرنسي نفسه الأسبوع الماضي!
وماذا فعلنا لكم ليبيد المتطرف "جورج بوش" الابن مئات آلالاف من العراقيين بأموال العرب بحجة وجود نووي في العراق ثم يمزح مع الصحفيين سائلاً كلبه:
ـ هل من نووي هنا؟
أي أن "كلبه" يعرف عن ملايين البشر الذين أبادهم في تهمة باطلة، فيما "عو" يعرف ويعلم أن إسرائيل تملك النووي وما أكثر، وتبيد الفلسطينيين ولا يجرؤ أن يسألها عن مئات آلالاف الذين يقتلون بلا ذنب فيها.. لأنه قاتل مشارك معهم!
"4"
وماذا فعلنا لكم؟
محاولات لثورات عربية لتنقية واقعنا، والنهوض ببلادنا تمّ إفناء آلاف آخرين فيها؟ وأنتم تعاونون الظلمة الجلادين علينا بلا سبب نعرفه، ماذا فعل لكم أهل سوريا ومصر واليمن وليبيا؟ لتوغروا صدورهم على بعضهم وتحولوا بلادهم إلى ساحات قتال مستعصٍ؟
ماذا فعلنا لكم ليترك الملايين بيوتهم في بلاد العرب والمسلمين ويفرون بأنفسهم إلى تركيا.. وشواطئكم، ولا يستطيع أغلبهم الدخول أحياء؟
وقد كان عام حكم الرئيس "مرسي" في مصر أكثر الأعوام اضمحلالاً للإرهاب في العالم كله، والآن يرى الابن أباه يقتل أمامه بسلاحكم وبدعمكم للطغاة الظلمة الفاجرين؟
ماذا فعلنا لكم وقد صارت بلداننا مرتعا للمشوهين الباحثين عن الملذات والسلع الاستهلاكية بفضل ما تنشرونه من ثقافة عفنة أن الراحة في الحياة تأتي من تحول الإنسان إلى مجرد حيوان؟
ماذا فعلنا لكم وقد بتنا نأمل بأن يعترف المواطن الإماراتي بأنه شقيق السعودي، والسعودي شقيق السوداني بسبب النعرات القبلية التي تصدرونها لنا؟
ماذا فعلنا لكم لكي يبكي الشيخ الكبير السن القرضاوي على واقع مسلمين عرب عُزل يطردون لأنهم يسعون لأن يكونوا بشراً فقط؟
وهو يُذكركم بالإنسانية التي فيكم قبله وقبلنا.. لعلها تصحو يوماً ما لتجيبوا على السؤال: