ربما لا تضيف أوراق بنما، التي فضحت عمليات تهريب الأموال المسروقة من قبل حكام ونخب
دولنا العربية، جدبدا لما يعرفه أهل المنطقة، فهم متأكدون أن ما يسمى بـ"قادة دولهم" لصوص
لا يأنفون عن سرقة لقمة أولادهم والتلاعب بمواصفات أدوية مرضاهم وغش حليب أطفالهم،
ربما لا يعرفون الأرقام بدقة، لكنهم عاينوا بموتهم وجوعهم حجم عمليات النهب التي كانت.
ما كشفته أوراق بنما كانت الشعوب العربية قد كتبته على لافتات ثوراتها وأعلنته في صرخاتها
يوم خرجت، معلنة أن تحالفات المافيات قتلتنا وكانت تدرك بفطرتها أن هذه التحالفات لها أذرع
خارجية كالأخطبوط ،تمتد إلى ماوراء المحيطات ولديها شبكات أمان تحميها وتتستّر على
فضائحها، وتمنحها مساحة واسعة للمناورة أمام الشعوب، كثيرا ما كان هؤلاء يحاججون أن ليس
لديهم حسابات مصرفية، وبإمكان من يريد التأكد مراجعة البنوك الوطنية؟ وكثيرا ما كان هؤلاء
يهزأون من قرارات العقوبات الدولية بحقهم" إن وجدتم أموالا لنا في بنوككم احجزوا عليها".
كانوا مطمئين إلى عبقرية العمليات المعقدة والسرية الصارمة للملاذات الآمنة التي جعلتهم.
لكن رغم ذلك، وفي سنوات ما قبل الثورات لم تعد النخب السياسية وشبكات المافيا المرتبطة بها
بحاجة للتكتم عن فسادها، تجاوزت هذه العتبة منذ زمن واجتمعت لديها سمات عدم الخجل وعدم
الخوف، وراحت تمارس فسادها بشكل علني وفاضح، وبتحررها من عقدتي الخوف والخجل
طرحت نفسها شريكا مضاربا ومتعهدا ملتزما لكل الأفعال القذرة والمربحة في الآن نفسه، من
الهيمنة على المال العام واحتكار المجال الاقتصادي للدولة، إلى رعاية تجارة المخدرات وسوق
الدعارة وتصريف الدولار وبيع العقارات الوطنية للأجانب كما كان يحصل بشكل علني، في
نتيجة ذلك كانت الأضرار خطيرة على الصعيد الاقتصادي؛ فقد أدت عمليات نهب الأموال
وتجريف الثروات إلى إخراج تلك الأموال من دورة الحياة الاقتصادية، ومنعت تحقيق التراكم في
الثروة الذي يعدّ أساس التطور للمجتمعات، مما حرم البلدان العربية من فرص التطور في ظل
عالم باتت تقاس فعاليته في حجم التطور المحقّق لشعوبه، وحجم إنتاجيتها وقدرتها التنافسية.
كل ذلك وضع شرعية الدولة في العالم العربي موضع تساؤل، فهل ما تعيش تحت ظلاله شعوب
العالم العربي هي دول وهياكل مؤسساتية وأطر دستورية، أم مجرد غطاء لمافيات تحتكر
الاقتصاد والسلاح والعنف، وكيف يمكن تفكيك هيمنة هذه الطغم المتسلطة على الدول وإعادة
مؤسساتها إلى ملكية شعوبها؟. كيف يمكن تحويل الدولة من منتج للإفقار وحارس للقهر والهيمنة
إلى دار عدل وأمان للشعوب؟
تلك كانت أسئلة الربيع العربي عشية انطلاقه وقبل اصطدامه. لم تثر شعوب المنطقة نتيجة حسدها لمعيشة تلك النخب ودرجة رفاهيتها العالية، رغم أن طريقة استعراض أنماط الفساد قد وصلت إلى حد الاستفزاز الفاجر،بل لأن كل مساء في يوميات هذه الشعوب كان يقذف الآلاف على أرصفة الفقر والجوع والبطالة، ولأن كل صباح كان يطرح سؤالا صادما عن الجدوى من الاستمرار بالعمل وفق هذه النمطية.كان الطالب الذاهب إلى مقاعد الجامعة يطرح هذا السؤال على نفسه ما جدوى الدراسة والتخرج من الجامعة وهو يرى طوابير الخريجيين الجالسين على الأرصفة ينتظرون أي عمل؟
وكان الجندي السائر إلى مناوبة الحراسة يسأل نفسه ماذا سيحرس؟
وكذا القاضي الشريف الذي كان يسأل نفسه عن أي قضية يدافع؟
في تلك اللحظة بدت الحياة في جنبات الجغرافية العربية وتحت ظلال بها عوائل الأسد ومبارك والقذافي وصالح وكل الطغاة. يمدون ألسنتهم لشعوبهم: " حسنا نحن فاسدون لكن أثبتوا إن استطعتم".